الموقع العربي الرسمي للجماعة الإسلامية الأحمدية

الجمعة، 2 أكتوبر 2015

الرد على حياة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام




الرد على الأدلة التي يحتج بها بعض الناس على حياة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام

الدليل الأول

{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء 158 - 159)
فمن لم يُقتل ولم يُصلب فهو حي.

الجواب

إن الله تعالى يقول أن اليهود ما قتلوا المسيح وما أماتوه على الصليب ولكن أغمي عليه وشُبِّه بالمقتول والمصلوب، واليهود أعلنوا موته على الصليب ليثبتوا أنه كان كاذبًا ولم يكن مرفوعًا إلى الله، فردَّ الله عليهم بأنهم ما قتلوه بل رفعه الله إليه؛ أي أكرمه وقرَّبه إليه، ومعلوم أن اليهود إنما أنكروا رفعه الروحاني فقط، وظنوا أنه صار ملعونًا بموته على الصليب حسب التوراة، فردَّ الله عليهم بقوله {بل رفعه الله إليه} بأنه لم يكن ملعونًا بل كان من المقربين، وقد مر بحث الرفع مفصلاً.
ومن أعجب العجائب أن يقال عن رجلٍ أنه لم يمت لأنه لم يُقتل ولم يُصلب. إذ إن وسائل الموت ليست منحصرة في القتل والصلب فقط، بل هناك أسبابٌ أخرى أيضًا للموت كالأمراض المختلفة وغيرها.
وأما ما ذهب إليه المفسرون بأن رجلاً آخر شبه بالمسيح وحُوِّل إلى صورته وقتله اليهود على الصليب، فليس بمقبولٍ لأنه مخالفٌ للتاريخ، وترد عليه اعتراضات شتى:

(الأول) أن واقعة الصليب وقعت قبل الإسلام بستمائة سنة تقريبًا ولم يشهدها إلا اليهود والنصارى، وهم متفقون على أن المعلَّق على الصليب كان المسيح ابن مريم بذاته لا غير، فكيف يمكن للنصارى أن يقبلوا قولاً مخالفًا لما وصل إليهم بالتواتر ويخالف كتبهم المقدسة؟ فهل يمكن أن يرد تواتر الأمتين من دون برهانٍ قوي؟
(الثاني) من أخبر المفسرين بأن المعلَّق على الصليب كان غير المسيح؟ هل أخبرهم اليهود أو النصارى أم النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ كلا! بل إنهم اخترعوا هذه العقيدة من عند أنفسهم.
(الثالث) قد اختلف المفسرون في مَن أُلقي عليه الشبه اختلافًا كثيرًا. فقال بعضهم أن الله تعالى ألقى شبه عيسى - عليه السلام - على يهودي، وقال البعض بأنه ألقي على بعض أصحابه، ومنهم من يقول أن شبهه ألقي على حارس (راجع الجلالين وابن جرير وروح المعاني وغيرها) فأي قول منها أقرب إلى الصواب ولماذا؟
(الرابع) هل خاف الله من اليهود من أن يصعدوا إلى السماء فيقبضوا على المسيح؟ فلذا ألقى شبهه على رجل آخر بعد أن رفعه حيًا إلى السماء حسب اعتقادكم؟
(الخامس) لماذا أهان الله تعالى صورة محبوبه برسم صورته على عدوه؟ وإذا كان الله قد أراد أن يعذب ذلك العدو، فكان من الأولى أن يمسخه ويجعله قردًا أو خنزيرًا.

(السادس) إذا سلمنا بأن اليهود أماتوا على الصليب الرجل الذي شُبِّه بالمسيح ولم يثبت إنكاره عن كونه مسيحًا، فلا شك أن اليهود يكونون على الحق عند الله في تكذيب المسيح، إذ أنهم لم يروه ذاهبًا إلى السماء، والذي صلبوه كان المسيح نفسه طبق زعمهم واعتقدوا بكونه ملعونًا حسبما هو مذكور في كتبهم المقدسة: "وإذا كان على إنسانٍ خطيئةٌ حقها الموت، فَقُتِلَ وَعَلَّقْتَهُ على خشبة، فهو ملعونٌ لأن المعلق ملعون من الله؟ (1) (تثنية: 21: 22 - 23)
(السابع) قال الإمام أبو حيان الأندلسي في المحيط عن إلقاء شبه المسيح - عليه السلام - على رجلٍ آخر "أما أن يُلقى شبهه على أحدٍ فلم يصح ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك قال الإمام الرازي في تفسيره الكبير".
فالأمر الحق هو أن المسيح - عليه السلام - ما رفع إلى السماء حيًا بجسده العنصري، وما أُلقي شبهه على أحد، بل عُلِّق على الصليب وتحمل مصائب الصليب وأوذي أشد الإيذاء، ولما أنزل منه كان في حالة الإغماء إلى درجة حتى خيل إلى البعض أنه مات! وبعدما أفاق وخرج من المقام الذي كان وضع فيه بقي في تلك البلاد مختفيًا إلى أن هاجر منها إلى الهند، وألقى عصا تسياره في أرض كشمير، ومات فيها ودفن هناك وقبره يزار إلى يومنا هذا.

الدليل الثاني

أن المسيح - عليه السلام - ينزل عند قرب القيامة لقوله تعالى} وإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (الزخرف: 62)

الجواب

(1) النص حسب العهد القديم: وإذا كان على إنسانٍ خطيئةٌ حقها الموت، فَقُتِلَ وَعَلَّقْتَهُ على خشبة، فَلاَ تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلَى الْخَشَبَةِ، بَلْ تَدْفِنُهُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، لأن المعلق ملعون من الله؟

(1) إن هذه الآية لا تدل على حياته ونزوله من السماء أبدًا، لأن الله تعالى قال"وإنه لعلم للساعة" وما قال "إنه سيكون علمًا للساعة"، فالآية تدل على أنه عِلْم للساعة من وجه كان حاصلاً له في الوقت نفسه لا أنه يحصل في المستقبل، وإلا فلا يصح الخطاب للكفار بقوله "فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم"، لأن الأمر الذي لم يحصل بعد كيف يكون دليلاً للممترين؟ أما الوجه الحاصل له فهو تولده من غير أب. وتفصيل هذا الإجمال أن فرقةً من اليهود - أي الصدّوقيين كما ورد في مرقس الإصحاح 12 - كانوا كافرين بوجود القيامة، فبكَّتَهم الله وجعل ولادة المسيح من غير أب آية لهم على وجود القيامة، وإليه أشار الله تعالى في آية {وإنه لعِلْمٌ للساعة} وكذلك في آية {ولِنجعَلَنه آيةً للناس}.
(2) أن المسيح - عليه السلام - كان علمًا لساعة انقراض النبوة من بني إسرائيل؛ لأن الله تعالى نزع منهم النبوة وأعطاها لبني إسماعيل ولذلك قال لهم المسيح - عليه السلام - "لذلك أقول لكم أن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره. ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه." (مَتَّى 21: 43 - 44). فلا ذكر فيها لنزوله مرة ثانية.
(3) قال الحسن وجماعة من العلماء: وأنه أي القرآن لعلم للساعة (راجع معالم التنزيل ومجمع البيان وروح المعاني) ومن هذا يظهر أن المفسرين ذهبوا إلى أن الضمير في أنه لعلم للساعة يرجع إلى القرآن. ولا شك في صحة هذا المعنى أيضًا: فإن القرآن أحيا خلقًا كثيرًا من الأموات من حيث الروحانية وبعثهم من القبور. فهذا البعث الروحاني دليلٌ على البعث الجسماني أي على القيامة، فالحاصل أن الآية {وأنه لعلم للساعة} لا تدل على نزول المسيح من السماء أبدًا بل تفحم المنكرين بدليل موجود ثابت، فلهذا قال {فلا تمتُرُنَّ بها واتبعونِ هذا صراطٌ مستقيم}.

الدليل الثالث


{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران: 47)
استدل المفسرون بهذه الآية على نزول المسيح - عليه السلام - من السماء مستندين إلى أنه رُفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ولم يبلغ الكهولة، فيكون كهلاً بعد نزوله من السماء.

الجواب

أن هذا الاستدلال باطل لوجهين:
(الأول) أن القول بعدم جواز استعمال لفظ الكهل في حق ابن ثلاث وثلاثين سنة باطل من حيث اللغة، لأن الكهل في اللغة هو من كانت سنو عمره بين الثلاثين والخمسين تقريبًا (المنجد). فالمسيح - عليه السلام - كان بلغ الكهولة؛ إذ مكث في هذه الدنيا أكثر من ثلاثين سنة حسب أقوال المفسرين، فلهذا لا يرجع إلى الدنيا مرة أخرى، ثم ورد في الحديث الشريف "عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة في مرضه الذي توفي فيه "أن عيسى بن مريم عاش عشرين ومائة سنة وإني لا أراني إلا ذاهبًا على رأس الستين" (كنز العمال ج6 ص120، وتفسير ابن كثير ج2 ص242). وأخرجه الطبراني والحاكم أيضًا بسند رجال ثقات (راجع صفحة 8 من حجج الكرامة للسيد صديق حسن).
هذا وقد عزا بعض الناس تفاسير باطلة إلى الصحابة رضي الله عنهم، كما قال الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله: "هذه التفاسير الطوال التي أسندوها إلى ابن عباس غير مرضية ورواتها مجاهيل" (الإتقان: الجزء الثاني صفحة 188).
(الثاني) قال الحافظ ابن قيم رحمه الله في كتابه (زاد المعاد): "وأما ما يُذكر عن المسيح أنه رُفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة فهذا لا يُعرف له أثر متصل يجب المصير إليه" الجزء الأول صفحة 27.

الدليل الرابع

قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (النساء 160).

وفي الحديث: "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها. ثم يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه فاقرؤوا إن شئتم: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا. (صحيح البخاري ج2 باب نزول عيسى بن مريم).

الجواب

إن هذه الآية أيضًا لا تدل على حياة المسيح - عليه السلام - لوجوه:
(1) اختلف المفسرون في ضمير (موته) فقد ورد في تفسير الجلالين: "قبل موته (أي الكتابي حين يعاين ملائكة الموت فلا ينفعه إيمانه، أو قبل موت عيسى لما ينزل قرب الساعة"، فإذًا الضمير الوارد في (موته) ليس بمختص بعيسى - عليه السلام -.
(2) جاء في قراءة أبي بن كعب {قبل موتهم} كما ورد في تفسير الكشاف للزمخشري: "وتدل عليه قراءة أبي {إلا ليؤمنن به قبل موتهم} على معنى وإن منهم أحد إلا ليؤمنون به قبل موتهم". فثبت من هذه القراءة أن ضمير (موته) لا يرجع إلى عيسى - عليه السلام - بل يرجع إلى أهل الكتاب.
وأما أبي بن كعب رضي الله عنه فهو أحد الأربعة الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة أن يأخذوا القرآن منهم كما جاء في صحيح البخاري: "حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة .. قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود فبدأ به وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل وأُبيّ بن كعب. (الجزء الثاني: مناقب أبي بن كعب رضي الله عنه).

(3) قد اختلف المفسرون في مرجع ضمير (به) أيضًا. فقال بعضهم إن هذا الضمير راجع إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعضهم إنه راجع إلى الله تعالى، وقال بعضهم إلى عيسى - عليه السلام -، فورد مثلا في تفسير الجلالين: " (وإن) ما (من أهل الكتاب) أحد (إلا ليؤمننّ به) بعيسى (قبل موته) أي الكتابي". وفي (معالم التنزيل): "عن عكرمة أن الهاء في قوله ليؤمنن به كناية عن محمد - صلى الله عليه وسلم -، يقول لا يموت كتابي حتى يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -: وقيل راجع إلى الله - عز وجل - يقول وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالله - عز وجل - قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانه". وفي (روح المعاني): قيل الضمير الأول لله وأيضًا إنه لمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
إن هذا الاختلاف المذكور في تعيين مرجع الضمير يدل على أن حياة المسيح - عليه السلام - لا تثبت من هذه الآية، ولو فرضنا صحة المعنى بأن اليهود كلهم يؤمنون بعيسى - عليه السلام - قبل موته للزم أن يبقى جميع اليهود إلى نزول المسيح - عليه السلام - أحياء سالمين؛ لأن أمر إيمان اليهود كلهم لا يتم بحياة المسيح - عليه السلام - فقط، بل بحياة كفار بني إسرائيل كلهم من أول الزمان إلى يوم القيامة أيضًا. ومعلوم أن كثيرًا من اليهود قد ماتوا ودفنوا ولم يؤمنوا بعيسى - عليه السلام -، فكيف يصح أن يقال أن اليهود كلهم يؤمنون بعيسى - عليه السلام - قبل موته؟ فلا شك أن هذا المعنى باطل بالبداهة.

(4) إرجاع الضمير في (موته) إلى عيسى - عليه السلام - يستلزم الاختلاف في القرآن المجيد لأن الله تعالى يقول: {وَجَاعِلُ الذِينَ اتبَعُوكَ فَوْقَ الذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 56)، أي أن أتباع عيسى - عليه السلام - واليهود يبقون إلى يوم القيامة، وأن متبعي عيسى - عليه السلام - يكونون ظاهرين على الذين كفروا بالمسيح - عليه السلام - من بني إسرائيل إلى يوم القيامة. ومن المعلوم أن كون اليهود مغلوبين إلى يوم القيامة يقتضي وجودهم وبقاءهم وكفرهم إلى يوم الدين، فكيف يؤمن جميع أهل الكتاب بعيسى - عليه السلام - وقت نزوله مرة ثانية؟ وإن هذا الاستدلال مردود بآيات أخرى أيضًا، منها: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلا مَنْ رَحِمَ رَبكَ} (هود 119 - 120) وقال الله تعالى في حق أهل الكتاب خاصة: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (المائدة: 65). وهذا الأمر بديهي بأن القول بإيمان جميع أهل الكتاب بالمسيح - عليه السلام - يوجب الاختلاف في القرآن المجيد، والقرآن المجيد منزه عن الاختلاف لقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (النساء: 83)، فثبت أن إرجاع الضمير في (موته) إلى عيسى - عليه السلام - باطل.
والتفسير الحقيقي لهذه الآية - الذي لا ينكره عاقل - هو: إنْ منْ أهل الكتاب إلا ليؤمنن بصلب المسيح وقتله قبل موته أي قبل موتهم كما هو الأمر الواقع. فكل يهودي ونصراني يعتقد بموت المسيح على الصليب اعتقادًا جازمًا لأهوائهم الفاسدة وأغراضهم الباطلة. فاليهود يعتقدون بقتله ليثبتوا أنه كان كاذبًا ملعونًا - معاذ الله - لا علاقة له بالله.

والمسيحيون يعتقدون بموته على الصليب ليثبتوا أنه صار فدية لهم وصار ملعونًا لأجل معاصيهم لينقذهم من لعنة الناموس. ولا يمكن لكتابي أن يبقى كتابيًا إذا لم يعتقد بهذه العقيدة الفاسدة. والمسيح - عليه السلام - يكذبهم ويكون شهيدًا عليهم لا لهم، لأن اعتقادهم هذا خلاف الحقيقة ومبني على الظن لا على اليقين، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِن الذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَك مِنْهُ} (النساء 158) فنفى بذلك الكذب واللعنة عن المسيح - عليه السلام - وطهره من مزاعم اليهود والنصارى وجعله زكيًا.
وأما ما ورد في الحديث "فاقرؤوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا" فإن هذه الألفاظ ما تكلم بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هذا اجتهاد أبي هريرة رضي الله عنه من الآية، وهذا الاجتهاد مخالف للقرآن المجيد كما مر آنفًا فكيف نقبله؟ وقال الأئمة الأصوليون عن أبي هريرة رضي الله عنه ما نصه: "القسم الثاني من الرواة هم المعروفون بالحفظ والعدالة دون الاجتهاد والفتوى كأبي هريرة وأنس بن مالك. فإذا صحَّت رواية مثلهما عندك فإن وافق الخبر القياس فلا خفاء في لزوم العمل به وإن خالفه كان العمل بالقياس أولى" (أصول الشاشي: طبعة دلهي، صفحة 82). ولأجل ذلك قال صاحب التفسير المظهري في تفسير الآية وتأويل استشهاد أبي هريرة رضي الله عنه: "تأويل الآية بإرجاع الضمير الثاني إلى عيسى - عليه السلام - ممنوع. إنما هو زعم من أبي هريرة ليس ذلك من شيء في الأحاديث المرفوعة. وكيف يصح هذا التأويل مع أن كلمة إن من أهل الكتاب شامل للموجودين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - البتة .. ولا وجه أن يراد به فريق من أهل الكتاب يوجدون حين نزول عيسى - عليه السلام -.

الدليل الخامس


تدل الروايات الآتية على أن المسيح - عليه السلام - يرجع إلى الدنيا ويُدفَن في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(1) عن عبد الله بن سلام قال يدفن عيسى بن مريم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون قبره رابعًا.
(2) عن عائشة رضي الله عنها بأنها قالت: يا رسول الله إني أراني أعيش بعدك أفتأذن لي أن أدفن إلى جنبك؟ فقال: أنّى لك بذلك الموضع ما فيه إلا موضع قبري وقبر أبي بكر وعمر وعيسى ابن مريم (منتخب كنز العمال).
(3) عن عبد الله بن عمر قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ينزل عيسى ابن مريم إلى الأرض فيتزوج ويولد له ويمكث خمسًا وأربعين سنة ثم يموت فيدفن معي في قبري فأقوم أنا وعيسى بن مريم في قبر واحد بين أبي بكر وعمر.

الجواب

أما قول عبد الله بن سلام: "يُدفن عيسى ابن مريم مع رسول الله إلخ" فغيرُ مُسَلَّّم كما ورد في كتاب "كوثر النبي" كتاب في علم أصول الحديث: ويشترط أن لا يكون الصحابي ممن يأخذ من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وعبد الله بن عمرو بن العاص فإنه وجد في وقعة اليرموك كتبًا قديمة فكان يحدث بعجائبها، وربما قال أصحابه حدِّثنا عن رسول الله ولا تحدثنا عن الصحيفة.

وأما حديث عائشة رضي الله عنها فمفترى عليها وضعه الكذابون ونسبوه إليها كذبًا وزورًا، لأن هذا الحديث رواه صاحب كنزل العمال وضعَّفه، ويخالفه ما رواه البخاري ما نصه: "عن عمرو بن ميمون الأزدي قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يا عبد الله بن عمر اذهب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقل يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام ثم سلها أن أدفن مع صاحبي قالت كنت أريدها لنفسي فلأوثرنه اليوم على نفسي. فلما أقبل قال له ما لديك؟ قال أذنت لك يا أمير المؤمنين. قال ما كان شيء أهم إلي من ذلك المضجع فإذا قبضت فاحملوني ثم سلموا ثم قل يستأذن عمر بن الخطاب. فإن أذنت لي فادفنوني وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين" (صحيح البخاري الجزء الأول باب ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما).
أفلا يدل قول عائشة رضي الله عنها (كنت أريده لنفسي فلأثرونه اليوم على نفسي) وقول عمر رضي الله عنه (فإن أذنت لي فادفنوني وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين) على أنه لم يكن في علم الصحابة وعائشة رضي الله عنها ما رواه الرواة من دفن عمر وعيسى ابن مريم في حجرة عائشة رضي الله عنها.

وأما إذا حملنا الحديث الثالث على الظاهر فإنه يخالف ما ورد في البخاري كما مر آنفًا لأن الحديث (فيدفن معي في قبري فأقوم أنا وعيسى بن مريم في قبر واحد بين أبي بكر وعمر) مروي عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما ومعلوم أن عمر رضي الله عنه أرسل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلى عائشة رضي الله عنها كي يستأذنها أن يدفن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرتها، وإذا كان عبد الله بن عمر يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال "فأقوم أنا وعيسى ابن مريم في قبر واحد بين أبي بكر وعمر" لما سكت ولأجاب والده عمر رضي الله عنه لماذا ترسلني إلى عائشة رضي الله عنها وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن تدفن معه؟ ولما قال عمر رضي الله عنه "فإن أذنت لي فادفنوني وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين." وفوق ذلك لا يوجد في الحجرة موضع قبر آخر كما روى الإمام مالك رضي الله عنه "عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت رأيت ثلاثة أقمار سقطن في حجرتي فقصصت رؤياي على أبي بكر فسكت فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفن في بيتي قال أبو بكر هذا أحد أقمارك وهو خيرها (تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك: كتاب الجنائز باب ما جاء في دفن الميت، الجزء الأول صفحة 231).
(الثاني) وفي حديث آخر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنا أول من تنشق الأرض عنه ثم أبو بكر ثم عمر ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين (الفتح الكبير الجزء الأول صفحة 271). فأين ذكر عيسى - عليه السلام -؟ أما يثبت من هذا أنه لا يعود مرة أخرى إلى هذه الدنيا.

الدليل السادس

أن لفظ النزول قد استعمل للمسيح - عليه السلام - في الأحاديث فلهذا هو ينزل من السماء.

الجواب


أولاً ـ لما ثبت بالأدلة القرآنية والحديثية، أن المسيح - عليه السلام - قد مات وأن الموتى لا يرجعون إلى هذه الدنيا أبدًا، فلا يجوز أن يفسر لفظ النزول بمعنى النزول من السماء بالجسد العنصري.
ثانيًا ـ قد استعمل لفظ النزول للدجال، كما ورد في البخاري "يأتي الدجال وهو مُحرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة ينزل بعض السباخ بالمدينة، (صحيح البخاري، كتاب الحج، باب لا يدخل المدينة دجال). فهل ينزل الدجال من السماء؟!
ثالثًا ـ قد استعمل لفظ النزول في الأحاديث للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللصحابة "عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أشهر الحج وليالي الحج فنزلنا بسرف قالت فخرج إليه الصحابة (صحيح البخاري، كتاب الحج)، "وإن كان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية" (صحيح البخاري، كتاب المغازي).
رابعًا ـ كذلك استعمل لفظ النزول للمهدي - عليه السلام - فهل هو ينزل من السماء؟ والحال أن المسلمين يعتقدون أنه سيولد من أبوين، وقد ورد عنه: "وفي حديث أبي هريرة ينزل المهدي فيبقى في الأرض أربعين (النهاية لابن الأثير، الجزء الأول صفحة 14).

خامسًا ـ قد ورد لفظ النزول في القرآن المجيد لأشياء شتى يقول الله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} (الزمر 7). {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} (الأعراف 27) وكل واحد يعرف بأن البقر والحمير والجواميس والغنم لا تنزل من السماء، وكذلك اللباس يُتَّخَذ من الصوف والقطن والحرير وغير ذلك، وكذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحِجر 22). ثم يقول الله تعالى: {هُوَ الذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزلُ لَكُمْ مِنَ السمَاءِ رِزْقًا} (غافر: 14). فانظر كيف استعمل لفظ النزول في هذه الآية مع لفظ السماء أيضًا، وهل رأى أحد من الناس الرزق نازلا من السماء؟ كلا! بل يُتَّخذ الرزق من القمح والأرز والشعير وغيرها من نبات الأرض، فكما أن هذه الأشياء تنزل من السماء بتوسط علل وأسباب أرضية وتحدث وتتولد في الأرض، فهكذا يولد المسيح الموعود - عليه السلام - في هذه الأرض بتوسط أبويه بقوة الله الروحانية لا بحسب الظاهر نازلا من السماء كما زعم الزاعمون، ولذلك عبر عن مجيئه بلفظ النزول، إن الله تعالى يقول في حق محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ} (الطلاق 11 - 12). ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينزل من السماء بل كان له أبوان من نوع الإنسان.

سادسًا ـ قد جاء لفظ البعث أيضًا للمسيح - عليه السلام - في الأحاديث، وهذا أيضًا يدل على عدم نزوله من السماء: "كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم" (مسلم الجزء الثاني)، "فيبعث الله تعالى عيسى بن مريم (مسلم الجزء الثاني باب في خروج الدجال ولبثه في الأرض). ونفس هذا اللفظ استعمل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيّينَ رَسُولا مِنْهُمْ} (الجمعة 3). فلا تنخدعوا - أيها المسلمون - بلفظ النزول كما انخدع اليهود من قبلكم. إنهم كانوا يزعمون أن إيلِيَّا ارتفع إلى السماء وينزل مرة أخرى بجسمه العنصري، وهكذا أنتم تظنون أن المسيح بن مريم ارتفع إلى السماء بجسده وينزل مرة ثانية، وتسلكون مسلك اليهود ولا تفكرون، وتغترّون بالأحاديث الضعيفة وبأقوال المفسرين التي تخالف القرآن المجيد، وتقعون في هوة الضلال كما وقع اليهود من قبلكم، فذاقوا وبال أمرهم، فاعتبِروا يا أولى الأبصار فإن اللبيب الحازم يتعظ بغيره، ولا تُمْسِكوا بظواهر الروايات، فإن اليهود كانت عندهم نصوص أقوى وأوثق مما عندكم عن نزول إيلِيَّا (إلياس) - عليه السلام -، ولكن المسيح الناصري بنفسه أوَّلها حتى أن لفظ السماء كان موجودًا في كتبهم المقدسة المنزلة، ولا يوجد لفظ السماء في القرآن المجيد ولا في الأحاديث الصحيحة في حق المسيح - عليه السلام -. وقد ورد في كتب اليهود ما نصه "فصعد إيلِيَّا في العاصفة إلى السماء (الملوك الثاني 2: 11). و "ها أنا أرسل إليكم إيلِيّا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم (ملاخي 4: 5).

وبما أن اليهود كانوا يعتقدون بأن إيلِيّا ينزل بنفسه من السماء قبل ظهور المسيح في بني إسرائيل، فلما جاء المسيح الناصري كفروا به وقالوا إن إيلِيّا لم ينزل بعد فكيف نؤمن بالمسيح؟ ولكن المسيح - عليه السلام - أوَّل لهم نبأ مجيء إيلِيّا، بأن المراد منه ولادة رجل صالح متصف بصفاته وخواصه لا مجيئه بنفسه، وقال لهم مشيرًا إلى يوحنا - يحيى - عليه السلام - المعمدان ما نصه: "وإن أردتم أن تقبلوه فهذا هو إيلِيّا المزمع أن يأتي! من له أذنان للسمع فليسمع" (متى 11: 14 – 15). وقال مرة: "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء" (يوحنا 3: 13). ولكن اليهود لم يقبلوا تأويل المسيح وكذبوه ولم يؤمنوا بالمسيح، وهم إلى الآن ينتظرون نزول إيلِيّا من السماء بجسده العنصري.
واعلموا أن القرآن لا يجيز لأحد أن يرقى في السموات بجسده العنصري ثم ينزل منها، ألا تعلمون أن الكفار طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لن يؤمنوا به إلا إذا صعد إلى السماء ويُنزل عليهم بكتاب يقرؤونه دليلا على أنه ذهب إلى السماء، فقال تعالى ردًا عليهم: {قُلْ سُبْحَانَ رَبي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا} (الإسراء: 94). ولو كان الذهاب إلى السماء ممكنًا لبشر مع جسده العنصري لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى أن يصعد إلى السماء أمام أعين الكفار لكي يؤمنوا به، فالأمر الذي لا يجوز لأفضل الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - كيف جاز للمسيح الناصري - عليه السلام -؟ لأنه أيضًا بشر ورسول، ولو فرض أن عيسى رفع إلى السماء بجسمه للزم أنه ليس ببشر. وهذا خلف!

ورُبَّ قائل يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى السماء مع الجسد ليلة أسري به، فالجواب عنه أنه ما عرج - صلى الله عليه وسلم - بهذا الجسد المادي، بل عرج بالروح فقط، وبصورة رؤيا أو كشف. يقول الله في نفس السورة عن الإسراء: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤْيَا التِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلناسِ} (الإسراء: 61). وفي الحديث "واستيقظ وهو في المسجد الحرام" (البخاري، كتاب التوحيد، باب كلم الله موسى تكليمًا). كذلك ورد في زاد المعاد لابن القيم: "عن عائشة ومعاوية أنهما قالا إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده" (الجزء الثاني الصفحة 68). وخلاصة القول إن الإسراء كان بالروح في حالة الكشف والرؤيا، فالحاصل أنه لا يمكن للمسيح - عليه السلام - أن يذهب إلى السماء حيًّا بجسمه العنصري ويرجع مرة ثانية بنفسه؛ لأنه لم ينزل أحد من السماء قط ولن ينزل. والمراد من نزول عيسى - عليه السلام - مجيء رجل آخر من الأمة المحمدية يشبه عيسى بن مريم في صفاته وخواصه وحالاته، وقد ظهر في قاديان بنجاب في الهند باسمِ أحمد المسيح الموعود - عليه السلام ..

1 التعليقات :

عربي باي