الموقع العربي الرسمي للجماعة الإسلامية الأحمدية

الجمعة، 2 أكتوبر 2015

وفاة المسيح ابن مريم عليه السلام



إن مسألة وفاة المسيح عيسى ابن مريم - عليه السلام - مسألة أساسية بيننا - معشر الجماعة الأحمدية - وبين من لا يؤمنون بالمسيح الموعود - عليه السلام - من المسلمين. نحن نعتقد بأنه توفي كما توفي الأنبياء الآخرون، وقد صرح الله في القرآن المجيد بوفاته أكثر مما صرح بوفاة الآخرين من الأنبياء، لأن الله تعالى كان يعلم أن عددًا لا يستهان به من المسلمين سوف يزعمون بحياته في وقت من الأوقات ويؤيدون النصارى في عقيدتهم بأن المسيح كان إلهًا ولم يكن بشرًا كبقية الرسل والأنبياء. فها نحن نذكر ههنا من القرآن المجيد، الآيات الدالة على وفاته ليتدبر العقلاء ويعرفوا الحق المستبين.

الآية الأولى

{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَما تَوَفيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُل شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سورة المائدة 118)

لا شك أن هذه الآية تدل دلالةً واضحةً على وفاة المسيح ابن مريم - عليه السلام -. لأن السؤال المذكور في ابتداء الآية {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟} إذا سلّمنا كما قال بعض المفسرين لا يكون إلا يوم القيامة بدليل قوله تعالى بعد هذه الآية: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} وبدليل قول المسيح - عليه السلام - {إن تعذبهم فإنهم عبادك}، فإن عيسى - عليه السلام - يقول في جوابه أنه كان رقيبًا شهيدًا على قومه، وأنه لم يفارق قومه إلا بالموت بدليل قوله {وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم} ولم يفارقهم إلا بالوفاة لقوله {فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} والمسيح لم يعلم أبدًا بأن النصارى كفروا وضلوا بعد أن فارقهم واتخذوه إلهًا، فلو كان رجوعه من السماء محتملاً لعلم ضلالهم وكفرهم واتخاذهم إياه إلهًا. ومن المعلوم أن النصارى اتخذوا المسيح إلهًا قبل نزول القرآن المجيد كما أشار الله تعالى إليه في الآية: {لَقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُواْ إِن اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} سورة المائدة. وما زالوا يتخذونه إلهًا. ومن المتفق عليه أنه يأتي لإبطال ديانة النصارى خاصةً، فكيف يصح جوابه بأنه لا يعلم شيئًا من أمرهم أصلا، فلا ريب في كون الآية المذكورة صريحة الدلالة على موته، وقد استشهد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه المذكور في البخاري ولم يُرِدْ من لفظ التوفي الوارد في الآية إلا الموت كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه: "قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاء برجال من أمتي ...

ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ أَصْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. عَنْ قَبِيصَةَ قَالَ هُمْ الْمُرْتَدُّونَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ." (صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب واذكر في الكتاب مريم).
فكما أن الارتداد في الصحابة حصل بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك الارتداد في النصارى حصل بعد وفاة عيسى - عليه السلام -. فلو سلمنا أن المسيح - عليه السلام - حي في السماء بجسده العنصري ثم ينزل منها ويشاهد بنفسه أن النصارى اتخذوه إلهًا، فلا شك أن جوابه المذكور في الآية يوم القيامة يكون كذبًا وخلاف الحقيقة. ولا يمكن لنبي أن يكذب أمام الله تعالى يوم القيامة.

الآية الثانية

{إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِني مُتَوَفيكَ وَرَافِعُكَ إِلَي وَمُطَهرُكَ مِنَ الذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الذِينَ اتبَعُوكَ فَوْقَ الذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (سورة آل عمران: 55)

إن التوفي إذا كان من باب التَّفَعُّل وكان المتوفي (الفاعل) هو الله أو أحدٌ من ملائكته، والمتوفى (المفعول به) من ذوي الأرواح، وليس ثمة قرينة صارفة عن المعنى الذي وضع له - كالمنام أو الليل مثلا - فليس معناه سوى الموت وقبض الروح. ولا يوجد في القرآن المجيد ولا في الأحاديث ولا في اللغة العربية ولا في دواوين الشعراء ولا في كتب نوابغ العرب مثال واحد يدل على غير الموت في مثل هذا التركيب. وكفاك بعض أمثلة من القواميس والقرآن المجيد والأحاديث.
توفى الله فلانًا أي قبض روحه (أقرب الموارد).
توفاه الله أي قبض روحه (القاموس المحيط).
توفاه الله: إذا قبض نفسه (لسان العرب)
توفاه الله أماته. توفي فلان: قبضت روحه ومات (المنجد)
يقول الله تعالى:
{وَالذِينَ يُتَوَفوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} (سورة البقرة)
{وَتَوَفنَا مَعَ الأبْرَارِ} (سورة آل عمران)
{تَوَفنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصالِحِينَ} (سورة يوسف)
وفي الأحاديث:
"عن عائشة رضي الله عنها قالت تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِي" (البخاري، المغازي، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته).
"فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفن في بيتها" (تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك الجزء الأول صفحة 231)
"من توفيته منا فتوفه على الإيمان" (مصنف ابن أبي شيبة).
وفي البخاري "قال ابن عباس متوفيك مميتك (الجزء الثالث كتاب التفسير: تفسير سورة المائدة).
فما استعمل لفظ التوفي في الأمثلة السابقة إلا بمعنى قبض الروح فقط، ولا يوجد له استعمال أبدًا بمعنى الرفع إلى السماء بالجسد العنصري.

وأما قول بعض الناس أن الواو لا تقتضي الترتيب في هذه الآية، ورافعك مقدَّم ومتوفيك مؤخَّر، فيستلزم التحريف في كلمات الله، كاليهود الذين كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه، ومن ذا الذي يجترئ أن يقدم آيةً ويؤخر أخرى ويبدل ترتيب الله مع أن الله بنفسه رتب القرآن كما قال {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلهُمْ يَتَذَكرُونَ} (سورة القصص)
يقول العلامة أبو القاسم راغب الأصفهاني في معنى هذه الآية (وقوله - عز وجل -: ولقد وصلنا لهم القول أي أكثرنا لهم القول موصولاً بعضه ببعض (المفردات صفحة 546).
وورد في الحديث: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الركعتين، قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله، أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه (صحيح مسلم الجزء الأول باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي جامع الترمذي "نبدأ بما بدأ الله به: كتاب الحج، باب ما جاء أنه يبدأ بالصفا قبل المروة، وكتاب التفسير: تفسير سورة البقرة).
فانظر كيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما خالف ترتيب الله، فلا يحق لأحدٍ من المفسرين أو غيرهم أن يغيروه، فإن ترتيب الله أحق وأحرى أن يُتبع.

وأما لفظ الرفع في آية {وَرَافِعُكَ إِلَي} و {بَل رفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} فلا يقتضي صعود المسيح إلى السماء حيًا بجسده العنصري، لأن الناس يدَّعون بثلاثة أشياء ولا وجود لها في كتاب الله تعالى. وهي: الحياة والسماء والجسد. فكيف تتحقق دعواهم؟ فالرفع هنا رفعة المقام والدرجات والتشريف والتقريب إليه روحيًا لا جسديًا، لأن الله تعالى ليس بمتحيز في مكان حتى ترفع إليها الأجساد المادية، بل إنه - سبحانه وتعالى - موجودٌ في الأرض كما هو موجود في السماء وغيرها، لقوله {وَهُوَ اللهُ فِي السمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (سورة الأنعام). فلا حيز له ولا مكان له، ولا يكون معنى الرفع إذا كان الله رافعًا والإنسان مرفوعًا غير المعنى المذكور كما جاء في النهاية لابن الأثير: "في أسماء الله تعالى: الرافع، هو الذي يرفع المؤمنين بالإسعاد وأولياء بالتقريب".
وكذلك قال الله تعالى {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} سورة الأعراف، و {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ} (سورة النور)، و {يَرْفَعِ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ} (سورة المجادلة).
وفي الأحاديث: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص: "عسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون." (صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء)
وفي موضع آخر: "كل يوم هو في شأن يغفر ذنبًا ويكشف كربًا ويرفع قومًا ويضع آخرين" (صحيح البخاري، تفسير سورة الرحمن).
وفي صحيح مسلم: "قال عمر أما أن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قد قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقومًا ويضع به آخرين (باب فضل من يقوم بالقرآن).
و"ما تواضعَ أحدٌ لله إلا رفعه الله" (باب استحباب العفو والتواضع).
والدعاء بين السجدتين في الصلاة: "رب اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني" (سنن ابن ماجة).
فهل جميع هؤلاء الناس ارتفعوا إلى السماء بأجسامهم المادية؟

ولا يظن أحد أن إدريس - عليه السلام - كان رفع إلى السماء حيًا بجسده العنصري لقوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنهُ كَانَ صِديقًا نبِيًّا، وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيا} (سورة مريم)، لأنه إذا قلنا إن إدريس - عليه السلام - حي في السماء بجسده العنصري فلا يخلو من حالتين: إما أنه ينزل من السماء إلى الأرض ثم يموت، أو يبقى في السماء إلى أبد الآبدين. أما نزوله فلا أصل له ولم يعتقد به أحد. وأما بقاؤه في السماء بجسده العنصري إلى الأبد بدون الموت الجسدي فيخالف الآية الكريمة: {كُل نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (سورة الأنبياء)، وإذا قلنا أنه يموت في السماء فيكون مخالفًا لقوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} (سورة الأعراف). فالحق أن الله رفعه روحيًا لا جسديًا كما رفع إليه جميع الأنبياء.
وكذلك لا يوجد في كلمة (إلي) و (إليه) ما يدل على الرفع الجسدي. لقد قال إبراهيم - عليه السلام - {إِني مُهَاجِرٌ إِلَى رَبي} (العنكبوت: 27) وقال: {إِني ذَاهِبٌ إِلَى رَبي سَيَهْدِينِ} (الصافات: 100)، والحال أنه لم يُرفع إلى السماء، بل ذهب إلى الشام كما ذُكر في تفسير هذه الآية في تفسير الجلالين: {وَقَالَ إِني ذَاهِبٌ إِلَى رَبي} مهاجر من دار الكفر {سَيَهْدِينِ} إلى حيث أمرني ربي بالمصير إليه وهو الشام.
ويقول الصابرون عند نزول المصيبة: {إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 157) وكقوله تعالى {فَفِروا إِلَى اللهِ} (الذاريات: 51) وفي الحديث: إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة": الفتح الكبير الجزء الأول صفحة 95، وكنز العمال الجزء الثاني صفحة 25". فالحاصل أن الرافع إذا كان الله المنزه عن المكان والحيز والجهات، والمرفوع هو الإنسان، فلا يكون معنى الرفعِ الرفعَ بالجسد، وإلا فليأت من كان منكرًا بمثال واحدٍ خلاف هذا.

وأما القول بأن الله توفى عيسى بن مريم - عليه السلام - ثلاث ساعات من النهار أو ثلاثة أيام ثم أحياه ورفعه إلى السماء فليس بثابت من القرآن ولا من الأحاديث الصحيحة، بل هو خيال باطل يُروى عن النصارى، يقول الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} (يس: 32)، {فَيُمْسِكُ التِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى} (الزمر 43). وفي الأحاديث: "يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ قَالَ يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ، فنزلت الآيَةُ {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} (سنن الترمذي، جامع المناقب، وابن ماجة، باب فضل الشهادة في سبيل الله.)
وأيضًا ورد عن رجل ميت: "فجئنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرنا ذلك وقلنا ادع الله يحييه لنا فقال استغفروا لصاحبكم .. وقال لهم اذهبوا فادفنوا صاحبكم" (مشكوة المصابيح عن مسلم: باب ما يحل أكله وما يحرم).

فلا شك أن القول المذكور هو في الحقيقة مأخوذ من عقيدة النصارى لأنهم اعتقدوا بأن المسيح - عليه السلام - مات على الصليب ثم قام من القبر بعد ثلاثة أيام ثم رفع إلى السماء حيًا وجلس عن يمين الله تعالى وينزل في آخر الزمان مع الملائكة بكل قوة وشوكة ويغلب جميع الناس، وأما نحن فنقول كما يظهر بكل وضوحٍ من الآية القرآنية بأن المسيح - عليه السلام - كان عُلِّق على الصليب ولكنه لم يمت عليه وأوذي كما أذوي جميع الأنبياء، كما أن إبراهيم - عليه السلام - ألقي في النار ولكن نجّاه الله من النار، وكما أن سيد الرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أوذي أشد الإيذاء حتى أغمي عليه يوم غزوة أحد من شدة ما أصابه من أيدي الكفار، كذلك المسيح بن مريم - عليه السلام - علق على الصليب وتحمل الأذى بضع ساعات ولما أنزل منه كان مغشيًا عليه، وعصمه الله من لعنة الموت الصليبي وجعله مقربًا طبق وعده إياه، وأعلن اليهود قتله مع أنه لم يكن ميتًا في الحقيقة ولكن شُبه لهم بالمقتول والمصلوب، وذهب إلى بلاد أخرى وعاش فيها.
كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة وإني لا أراني إلا ذاهبًا على رأس الستين" (كنز العمال: الجزء السادس، صفحة 120). وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي" (اليواقيت والجواهر، الجزء الثاني، صفحة 24). وكذلك "لو كان عيسى حيًا لما وسعه إلا اتباعي" (شرح الفقه الأكبر صفحة 101). ومات بموته الطبيعي ودفن مثل جميع الأنبياء حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه ليلة المعراج في الموتى مع يحيى - عليه السلام -: "أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حدثهم ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية ... فلما خلصتُ إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة قال هذا يحيى وعيسى" (صحيح البخاري، الجزء الثاني، باب حديث الإسراء).

الآية الثالثة

{وَالذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (سورة النحل: 20)
إن عيسى - عليه السلام - أعظم من دعي من دون الله، وإن كل من دعي من دونه ونسبَ إليه الخلق أخبر الله تعالى عنهم في هذه الآية بأنهم أمواتٌ غير أحياء ولا يشعرون أيان يبعثون.

الآية الرابعة

{وَمَا مُحَمدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسُلُ أَفَإِن ماتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (سورة آل عمران: 144)
وليس معنى الخلو في هذا المقام غير الموت وقد استعمل لفظ الخلو بمعنى الموت في القرآن المجيد واللغة العربية بكثرة، قال الله تعالى:
{تلك أمة قد خلت} سورة البقرة: الآية 141.
{قد خلت من قبلها أمم} سورة الرعد: الآية 30
{الذين خلوا من قبلهم} سورة يونس: الآية 102
وفي (لسان العرب): "خلا فلان إذا مات".
وخلا الرجل: أي مات (أقرب الموارد).
وقال السموءل بن عاديا:
إذا سيد منا خلا قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول (الحماسة).
ومعناه: إذا مات منا سيد قام مقامه سيد.
فالآية المذكورة تصرح بأن جميع الرسل قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ماتوا، ومن ضمنهم عيسى - عليه السلام -، وبها استدل أبو بكر رضي الله عنه على وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدليل أن جميع الأنبياء الذين جاؤوا قبله قد ماتوا. وقال في خطبته التي ألقاها بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -:

"أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله: {وَمَا مُحَمدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسُلُ ... إلى قوله الشاكِرِينَ}. قال (الراوي): واللهِ لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمعُ بشرًا من الناس إلا يتلوها. فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلّني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات". صحيح البخاري، الجزء الثالث، كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر.
فلما سمع الصحابة استدلال أبي بكر رضي الله عنه بالآية الكريمة بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي كما توفي جميع الأنبياء الذين جاؤوا من قبله، سكتوا ولم يرد أحد منهم على أبي بكر قائلاً بأن استدلالك ليس بصحيح لأن عيسى - عليه السلام - لم يمت وهو حي في السماء ويرجع إلى هذه الدنيا مرة ثانية. فهذا السكوت يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على وفاة جميع الرسل الذين خلوا قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يكاد يوجد إجماعٌ مثله في الأمة المحمدية.

الآية الخامسة

{وَالسلام عَلَي يَوْمَ وُلِدت وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيا} (سورة مريم: 33)
وإذا سلمنا كما يقول بعض الناس بأن المسيح - عليه السلام - كان رفع حيًّا إلى السماء بجسده العنصري فلا شك أن ذلك اليوم كان يوم سلام له خاص دون أن يشاركه فيه أحدٌ من الأنبياء، وكان لا بد من ذكره، ولكن الأمر الحق هو أن قصة صعوده إلى السماء مخترعة وأنه مات كما مات يحيى - عليه السلام -؛ لأن الله تعالى أيضًا يقول عن يحيى - عليه السلام - {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} (سورة مريم: 15)

الآية السادسة

{ما الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسُلُ وَأُمهُ صِديقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعَامَ} (سورة المائدة: 75)
فالمسيح جاء إلى الدنيا حسب سنة الأنبياء وخلا كما خلوا، والآن هو لا يأكل الطعام، وفي الزمان الماضي كان يأكل الطعام -وكما أن عدم أكل طعام مريم عليها السلام دليل على موتها، فهكذا عدم أكل طعام عيسى - عليه السلام - دليل على وفاته- ولا يمكن لبشر أن يحيا حياةً جسدية بغير طعام كما نصت عليه الآية الواردة في حق الأنبياء عليهم السلام خصوصًا: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} (سورة الأنبياء: 8)

الآية السابعة

{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} (سورة الأعراف: 25)
وتقديم الظرف (فيها) على الفعل (تحيون) يفيد الحصر، والقانون عام يشمل جميع بني آدم، فكيف خرج عيسى بن مريم - عليه السلام - من جملة بني آدم ومن هذا القانون العام ورفع حيًا إلى السماء بجسمه العنصري؟ ويعيش في السماء منذ ألفي عام من دون أكل وشرب خلافًا لما قال الله تعالى في القرآن المجيد: {ألم نجعل الأرض كفاتًا أحياء وأمواتا} (سورة المرسلات، الآية 25: 26) {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} (سورة البقرة: الآية 36).
وهناك آياتٌ أخرى كثيرة وأحاديث عديدة تدل دلالة قاطعة على وفاة المسيح عيسى بن مريم - عليه السلام -، وأنه لا يعود إلى هذه الدنيا أبدًا، ولو كان من الممكن رجوع نبي من الأنبياء إلى هذه الدنيا لكان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أولى وأجدر بأن يرسل ثانيةً من حيث كماله وفضائله وإرشاده الخلق إلى الهداية، وما دام الله لم يشأ إرجاعه فكيف يرجع المسيح المتوفى؟ ولنعم ما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه يوم وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"كنتَ السوادَ لناظري فعَمِي عليك الناظرُ
من شاء بعدك فليمتْ فعليك كنتُ أُحاذِرُ"

0 التعليقات :

إرسال تعليق

عربي باي