الموقع العربي الرسمي للجماعة الإسلامية الأحمدية

الجمعة، 2 أكتوبر 2015

نبوءات يشكك فيها المعارضون

نبوءات لسيدنا أحمد - عليه السلام -
يشكّك فيها المعارضون

دراسة نقدية
بقلم: نعيم عثمان ميمن
ترجمة: المرحوم محمد حلمي الشافعي
الشركة الإسلامية المحدودة
الفهرس
مقدمة
الفصل الأول
القواعد الأساسية التي تحكم تحقُّقَ النبوءات
الفصل الثاني
النبوءة المتعلقة بالسيدة محمدي بيغم وعائلتها
الفصل الثالث
المباهلة مع المولوي "ثناء الله" الأمرتساري
الفصل الرابع
النبوءة عن القسيس عبد الله آثم
الفصل الخامس
د. عبد الحكيم البطالوي ونبوءاته
الفصل السادس
النبوءة المتعلقة بسيدنا "المصلح الموعود"
الفصل السابع
النبوءة المتعلقة بالقس ألكسندر دوئي ( Alexander Dowe)

مقدمة الناشر

قال الله تعالى في كتابه المجيد: {وما نرسل المرسَلين إلا مبشرين ومنذِرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليُدحِضوا به الحقَّ واتخذوا آياتي وما أُنذروا هُزُوًا} (سورة الكهف: 57)
مِن أسس العقيدة الإسلامية أنه بعد بعثة سيدنا ومولانا محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .. لا يُمكن أن يُبعث نبي آخر يكون مستقلا أو خارجا عن سلطان وسيادة نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم -. ولكن - في إطار هذا المبدأ - يُمكن أن يبعث الله تعالى نبيًّا تابعًا للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - ليقوم بكل متطلبات النبوة.
ولقد ادَّعى سيدنا الميرزا غلام أحمد القادياني - عليه السلام - مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية - في إطار شريعة الإسلام - بأنه المهدي والمسيح الموعود .. النبي التابع الخاضع خضوعا كاملا لنبي الإسلام سيدنا ومولانا محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. ولكن خصوم الأحمدية في محاولاتهم للحكم عليه بحسب ما استقر عندهم من شروط النبوة .. أثاروا ضد حضرته اعتراضات كثيرة .. لم يكن بهم حاجة إليها لو أنهم أقرّوا بشروط النبوة بناءً على ما جاء في القرآن الكريم وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ومع ذلك فإن من الظواهر التي لا نُكران لها أنه عند اصطفاء أحد للنبوة فإن الله - جلّ وعلا - ينوِّر من يختاره ويبلّغه هذه الإرادةَ الإلهية بطريق الوحي. ولكن مما يؤسف له .. أن الناس طالما رفضوا هذه الإعلانات الإلهامية، ومِن ثَم جلبوا على أنفسهم الهلاك بإنكارهم آياتِ الله تعالى التي تجلت على يد هؤلاء الرسل. يقول الله تعالى: {وما مَنَعَنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون وآتينا ثمودَ الناقةَ مبصِرةً فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا} (سورة الإسراء: 60)
ولما كان الإمام المهدي والمسيح الموعود - عليه السلام - رسولا مكلَّفًا من لدن الله - جل جلاله - فقد تلقَّى حضرتُه كثيرا من الوحي الإلهي. ومن العجيب أن خصومه - في تلهفهم على تكذيب دعواه للنبوة - جادلوه بإصرار واستمرار .. منكرين كثيرًا من نبوءاته الإلهامية على أنها مجرد اختلاقات لم تتحقق أبدًا.
وشهدت الحقبةُ الحالية صحوةً جديدة لهذه الاعتراضات ضد نبوءات سيدنا أحمد .. مع أن الجماعة الإسلامية الأحمدية قد فنَّدت حجج الخصوم ودحضتها تمامًا في شتى المناسبات من قبل. وفي هذا الكتاب نقدم جوابًا شاملا - بإذن الله - على انتقاداتِ خصومِ سيدنا أحمد - عليه السلام - بصدد نبوءاته التي يزعمون أنها لم تتحقق.

الفصل الأول

القواعد الأساسية التي تحكم تحقُّقَ النبوءات

قبل أن نشرع في بحث بعض من نبوءات سيدنا الميرزا غلام أحمد التي يزعم خصومه أنها لم تتحقق .. قد تكون مناقشةُ القواعد الأساسية التي تحكم تحقُّقَ النبوءات الإلهية التي يُنعم بها الله على رسله .. ذاتَ صلة وثيقة بالموضوع.
لا يجادل المرء مع خصوم الأحمدية عندما يقولون بأن "النبي لا يتنبأ من عند نفسه، بل يفعل ذلك بسلطان من الله تعالى وحده". كما يُعَدُّ من السذاجة أيضا ما يفترضه ويؤكده ذوو الذكاء المحدود من أن "كل نبوءة للنبي لا بد من تحققها حرفيًّا". يشير تاريخ الديانات المسجَّل إلى أن رجالا ممن يتبوأون أعلى المنازل والمقامات في الروحانية أيضًا قد لم يقدروا في بعض الأحيان على فهم رسالة سماوية كما ينبغي. وطبقًا لشهادة القرآن الكريم .. حدث بالفعل أن بعض رسل الله تعالى قد فهموا ما أُوحي إليهم فهمًا يخالف حقيقةَ ما ترمي إليه المشيئة الإلهية فيما أوحي إليهم. ألسنا نعرف رؤيا سيدنا محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - التي تتعلق بأداء العمرة والحج مع صحابته .. تلك الحادثة المعروفة في تاريخ الإسلام باسم "صلح الحديبية"؟ ماذا حدث هناك؟ تقول الأحاديث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء على رؤيا إلهية رآها - طلب من أصحابه أن يتجهزوا لزيارة بيت الله الحرام بمكة المكرمة وأداءِ شعائر العمرة هناك. ولكن مشركي مكة أبوا عليهم دخولَ البقعة المقدسة. وانتهى الأمر إلى توقيع معاهدة بين المسلمين والمشركين عند الحديبية، وبناء على شروطها قَبِلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعودة إلى المدينة بدون أداء شعائر العمرة التي فَهِمَ حضرته من الرؤيا أنها مقدَّرة لهم. (صحيح البخاري، كتاب المغازي)
ويشهد التراث الإسلامي أن صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع احترامهم وتقديرهم الفائق لمقامه - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكرهون بشدةٍ الإحلالَ من إحرامهم بالعمرة والرجوعَ إلى المدينة دون تحقيق النبوءة كما فهموها. (المرجع السابق)
وبعد سنوات ذكر سيدنا عمر - رضي الله عنه - هذه الحادثة وصرَّح بأنه "لم يخالجه شك منذ أن دخل في الإسلام إلا يوم الحديبية." (زاد المعاد في هدي خير العباد، المجلد الأول)
يا تُرى .. بماذا يعلِّق أولئك المتعالمون المتعجرفون .. الذين يجادلون في تحقق نبوءات سيدنا أحمد .. لو أنهم كانوا حاضرين لدى توقيع صلح الحديبية والإيابِ إلى المدينة دون أداء شعائر العمرة التي أشارت إليها رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
وهناك مثال آخر يبين كيف أن الرؤى الربانية لم يفهمها تمامًا في بعض الأحيان رجالٌ من ذوي المكانة العالية .. ذلك هو وعد الله تعالى لسيدنا نوح - عليه السلام -. يقص القرآن الكريم أن الله - جل وعلا - وعد رسولَه نوحًا بنجاة أهله جميعًا من كارثة الطوفان التي كانت وشيكة الحلول بقومه. وعندما شاهد سيدنا نوح ابنه على شفا الغرق .. نادى ربه بصحيات الحزن الشديد والحيرة الأليمة {ربِّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} (هود:46) .. وكأنه يذكِّره بوعده السابق. ومع ذلك .. فإن الله تعالى - بدلا من أن ينجي الولد - أخبر الوالدَ المضطرب بأن ابنه ذاك من دمه ولحمه فعلا .. ولكنه - بسبب فسوقه - لا يدخل ضمن أسرة النبي في نظر الله تعالى. فكأن سيدنا نوحًا قد أخطأ فهمَ الوعد الإلهي الذي ما كان يتعلق بأهل النبي وذريته إلا من الناحية الروحية فحسب.
وإنا لنسأل هؤلاء الذين يجزمون بلا دليل: ما قولهم لو كانوا حاضري المشهد، وينظرون من فوق الجبل ويرون الموجة العاتية تكتسح ابن نوح إلى مصيره الأخير؟
هذه الحقائق التاريخية الثابتة في كتب الوحي الإلهي .. ألا توحي للمرء بضرورة أن يتعرف جيدا بالوسائل المتنوعة التي يحقق بها الحقُّ - عز وجل - كلماتِه .. ذلك قبل أن يغامر المرء فيناقش هذه المسألةَ الدقيقة المتعلقة بتحقق النبوءات والمشيئة الإلهية؟
إن القاعدة الذهبية المهيمنة في تعامل الله جل وعلا مع الإنسان ذَكَرَها القرآن المجيد حيث يعلن ربُّ المقادير وصاحبها: {عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعتْ كلَّ شيء .. فسأكتبها للذين يتقون} (سورة الأعراف: 157)
وبالنظر إلى هذه القاعدة السائدة دائما .. يكون من السذاجة بمكان أن يحتجّ أحد بقوله: لا بد من تحقق النبوءات كلها حرفيًّا كما يفهمها العقل البشري المحدود. إن مثل هذا الرأي مضلِّل تماما، وصاحبُه يَغفل عن أن يأخذ في الاعتبار أمرين: أولا، صفةَ الرحمة الإلهية الحنون التي لا يُسبَر غورها، وثانيا، العواملَ الأخرى المتعلقة بالموضوع .. مثل سلوك القوم الذين صدرت بصددهم النبوءة الإلهية.
ولما كانت رحمة الله تعالى ترجَح غَضَبَه .. فلا يمكن أن يجرؤ مسلم يستحق ذرةً من نعم الله تعالى ليقيِّد حقَّ الله في الاختيار والتفضل برحمته على من يشاء. هذا الحق - بشهادة القرآن العظيم وأحاديث النبي الكريم - هو ما أعلنه الله تعالى هكذا: {كَتَبَ على نفسه الرحمةَ} .. يرحم من يشاء وإن كانوا ممن قُدِّر عليهم الغضب من قبل.
لا مِراء في أن ما يقرره الله تعالى حق مطلق .. لأنه لا يقول إلا ما هو حق. ولكن الله تعالى هو نفسه مالِكُ مشيئته ورب الأقدار. قد ينبئ بهلاك قوم، ثم يبدِّل القومُ سلوكَهم في الحياة ويُبدون الندم، ويتوبون ويتصرفون بحسب التقوى .. وعندئذ يصفح الله تعالى عنهم .. ويَدَعُ المبدأَ الغالب - مبدأ {رحمتي وسعت كل شيء} - ليقوم بدوره طبق قاعدة {وما كان الله معذِّبهم وهم يستغفرون} (سورة الأنفال: 34)
ويندهش المرء عندما يجد هؤلاء الطاعنين في الجماعة الإسلامية الأحمدية يفشلون في ملاحظة الظاهرة اليومية التي خَبرها كل مؤمن. فكثيرا ما يرى المؤمن في الحلم تحذيرًا يتعلق بأحداث غير مواتية ومآسٍ وشيكة في حياته، ويستطيع الجزمَ أن مثل هذه الأحلام الصالحة - بناء على سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي في الواقع تحذيرات إلهية، يكشف الله تعالى عن طريقها لعباده أخطارا تهددهم. ولكن إذا تاب المنذَر، وابتهل إلى الله تعالى سائلا الصفحَ، وأعطى الصدقاتِ وبذل المال في سبيل الله .. فإنه كثيرا ما يتفادى برحمة الله تعالى وغفرانه هذه الأخطارَ المحدقة.
ما ذا يا ترى .. رأي المعترضين على نبوءات سيدنا أحمد .. بالنسبة لهذا الرب الذي يُخبر عبده بحادث وشيك، ثم إذا تاب عبدُه وتضرَّع وتصدَّق وضحّى .. يبدِّل الرب قضاءه؟ ألا يكون صادقا في كلمته؟
من تعاليم الإسلام الحقة، التي أرساها نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بالعقاب الإلهي .. أن لله سبحانه مطلقَ الحرية في أن يعفو، وأن الصدَقة ترفع عقاب السماء المقدر. وبصرف النظر عما يقوله العيابون على سيدنا أحمد بصدد نبوءاته .. تبقى الحقيقة الثابتة بأن تحقُّق النبوءات، وخصوصًا تلك المنذِرة بالعقاب، موضوعٌ مشروط بسلوك المنذَرين الذين صدر بشأنهم القرار، ومشروطٌ أيضا بمشيئة الله تعالى. وإن شاءت حكمتُه ألا يعفو - جل وعلا - تحققت كل كلمة في النبوءة.
ولكن إذا قدَّر الله تعالى أن يصفح عن الإنسان لأنه بدَّل سلوكه .. فإن النبوءة التي تنذر بالعقاب لا تتحقق. ومن الواضح عندئذ أن عدم تحققها لا يفسَّر بأنه بطلان كلمة الله تعالى .. لأنه جل وعلا محيطٌ بكل شيء، وهو وحده المطّلع على قلب المرء، ويعلم المغزى الحقيقي لكلمات نبوءاته .. ومن ثَم فإنه يحقق كلمته كما قدّر وشاء، وليس كما يفهم الإنسان أو يتوقع.
ثم هناك دليل إيجابي في القرآن الكريم يشير إلى أن الوعود الإلهية عن بشارات سارة هي أيضا قابلةٌ للتبديل إذا بات القوم المبشَّرون غيرَ أهلٍ لتلقي الإنعام الإلهي الموعود. وللمرء أن يتساءل مثلا .. ماذا جرى لسيدنا موسى وقومه بني إسرائيل بعد أن تحرروا من استعباد فرعون مصر؟ أنبأهم سيدنا موسى - عليه السلام - بأن الله تعالى سوف يهلك أعداء بني إسرائيل ويورث الإسرائيليين الأرض الموعودة. {قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} (سورة الأعراف:130) وتحقيقًا لذلك أوصلهم الله تعالى إلى عتبات الأرض الموعودة التي كتبها لهم، ولكن تبيَّن أن بني إسرائيل غير جديرين بهذا الوعد بعد، ولذلك قضى الله تعالى تأجيلَ تحقق وعده لهم أربعين سنة. (سورة المائدة: 22 - 27)
يروي لنا التاريخ أن سيدنا موسى .. ذلك الرسول الصالح الذي بعثه الله تعالى إلى بني إسرائيل .. عانى مع أمته الظالمة. ومع أنه كان بريئًا من أي جرم إلا أنه مات في "برية مؤاب" دون أن يدخل الأرض الموعودة التي وعده الله وقومه إياها. ولكنه كان عبدًا مؤمنًا مخلصًا لله تعالى .. ولذلك لم يعترض ولم يشكّ في كلام ربه.
والآن، هل يجرؤ أصحاب التأكيد الساذج بأن وعود الله تعالى لا بد من تحققها حرفيا دون تغيير أو تبديل .. بصرف النظر عن أي سلوك مقيت من جانب الموعودين .. أقول: هل يجرؤون على مساءلة الله تعالى نيابةً عن سيدنا موسى؟
وإذن، عندما نقرأ أن كلمات الله "لا تتبدل" .. ينبغي فهمُها فقط على أنها أسلوب مقرَّر من الله تعالى، وأن تحقق أحكامها في الماضي منذ إعلان أن "كلمات الله لا تتبدل" يقوم على مثل هذه الآيات القرآنية: {فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا} (سورة فاطر:44)
فهل يتوقعون من الله تعالى معاملة غير معاملته للأقوام الماضية؟ كلا، لن تجد تغييرا أو تبديلا في سنة الله جل وعلا.
ومع ذلك .. إذا شاء الله تعالى - انسجامًا مع سنته المستمرة - أن يرجئ أو يلغي قرارَ إيقاع العقوبة على قوم بسبب عوامل معينة تستدعي رحمته، كما حدث مع سكان نينوى .. فإن هذا التغيير أو التبديل الظاهري لا يجوز اعتباره تبديلا أو تحويلا في كلمة الله تعالى.
يسوق القرآن الكريم دليلا قويا في بيانٍ علمي .. يوضح كيف أن الله جل وعلا يجعل رحمته تسبق غضبه، إذ يسحب قرار العقوبة الذي أصدره. والمثل النموذجي لهذا الأسلوب نجده في معاملة الله تعالى لأهل نينوى (سورة يونس:99). يقص علينا القرآن المجيد أن الله تعالى بعث سيدنا يونس - عليه السلام - رسولا إلى بلدة نينوى، فرفضوا رسالة الله تعالى بادئَ الأمر، ولذلك قدر الله موعدًا معينًا ويومًا محددًا لهلاكهم. وفهِم سيدنا يونس أن هذا النبأ الإلهي الخاص بهلاك مائة ألف أو يزيدون من سكان نينوى سوف يتحقق حرفيًّا، ولذلك هاجر من البلدة (سورة الأنبياء: 88)، ووقف على مسافة منها يترقب أنباء تدميرها. يقول القرآن المجيد إن أهل هذه البلدة ندموا ندمًا صادقًا، وتابوا إلى ربهم توبةً نصوحًا، وتضرعوا إليه يستغفرونه ويلتمسون رحمته .. فألغى الله تعالى قراره السابق ونظر إليهم برحمته. ويصرح القرآن المجيد فيما يتعلق بهذه النبوءة والمصير النهائي لقوم نينوى فيقول: {لما آمنوا كشفنا عنهم عذابَ الخزي في الحياة الدنيا} (سورة يونس: 99) فهل يتقدم أولئك الناقدون لنبوءات سيدنا أحمد .. ويحتجون ضد نبوة سيدنا يونس فينكرونها .. لأن نبوءته التي تلقاها بالوحي الإلهي لم تتحقق كما توقعها الإنسان .. فقد جاء قدر الله تعالى بخلافها، ونجَّى أهلَ نينوى من عذاب الخزي لما آمنوا؟
وبالمناسبة، فإن سيدنا يونس - عليه السلام - كان رجلا قوي الإيمان عظيم التقوى. لما أدرك خَطَأَه في فهم غاية المشيئة الإلهية .. طفق يستغفر ويسأل الله تعالى الصفحَ، ونتيجة لذلك نجّاه الله تعالى من الغم. لو كان الناقدون العيابون لسيدنا أحمد هؤلاء في مكان سيدنا يونس .. للبثوا في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، إذ لا يُتوقع منهم إدراكُ خطئهم والتماسُ المغفرة على سوء فهمهم لسنن الله تعالى.
هذه الأمثلة القليلة من التاريخ الديني المسجَّل المحفوظ .. تكفي لترسيخ الحقيقة حول مسألة تحقُّق النبوءات الإلهية، وتُبين أنها موضوع يتطلب الدراسة بحرص عظيم.
ومن المَهازل المؤلمة عند مناقشة نبوءات أُلهمتْ لسيدنا أحمد - وهي بالطبع خاضعة لنفس القواعد الإلهية السارية التي ذكرناها آنفا - أن خصوم الأحمدية لا يتعاملون مع الموضوع بخُلق الأمانة والاستقامة .. وهما من الصفات الواجبة، ليس على المؤمن فحسب، بل تتوقع أيضا من الإنسان العادي الصادق.

الفصل الثاني

النبوءة المتعلقة بالسيدة محمدي بيغم وعائلتها

الواقع أن نبوءة سيدنا الميرزا غلام أحمد - عليه السلام - فيما يتعلق بعائلة محمدي بيغم .. هي النبوءة التي يلجُّ ويلحُّ خصومُه بشأنها، ويعترضون عليه مؤكدين أنها لم تتحقق.
كانت "محمدي ببغم" ابنة أحد أقرباء سيدنا أحمد الأبعدين من ناحية والده، يُدعى الميرزا أحمد بيك. كان هذا الرجل قد أعلن ارتداده عن الإسلام. ليس ذلك فحسب، بل شارك أيضا مع بعض الأقارب الآخرين في سب نبي الإسلام سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والتشكيك في صدق القرآن الكريم، وإنكار وجود الله تعالى. (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج5 ص566 - 567)
قَلِقَ سيدنا أحمد بالطبع من هذا الموقف الجريء الذي يقفه هؤلاء الأقارب الذين طالما نصحهم أن يكُفّوا عن إنكار وجود الله تعالى، وشتمِ النبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم -، والطعنِ في القرآن الكريم كلمة الله المقدسة. ولكنهم أعاروا نصحه آذانًا صمّاء. بل كانت استجابتهم الوحيدة الإمعان في العدوان، واحتقار ما يبذله لهم سيدنا أحمد من نصح. ولاحَظَ سيدنا أحمد أن هؤلاء القوم قد صاروا أشد جرأة في شجب كل مقدسات الإسلام، فذكر هذا الأمر وقال:
"وكذلك سدروا في غلوائهم، وجمحوا في جهالاتهم، وسدلوا أثواب الخيلاء يوما فيوما، حتى بدا لهم أن يشيعوا خزعبلاتِهم ويصطادوا السفهاء بتلبيساتهم، فكتبوا كتابا فيه سبُّ رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، وسبُّ كلام الله تعالى، وإنكارُ وجود البارئ عز اسمه." (المرجع السابق 567)
هذه الوثيقة التي نشرها بعض المنشقّين عن الإسلام في الأسرة .. وجدت ذيوعًا في الصحافة النصرانية. (جريدة "جشمه نور، أمرتسار، بتاريخ 13/ 8/1885م) وطلب كاتبوها من المؤمنين بدين الإسلام أن يأتوا بآية تثبت صدق عقيدتهم.
وعندما وصل الخبر إلى سيدنا أحمد حزن حزنًا شديدا، قد أعرب عنه بقوله:
"فإذا الكلمات تكاد السماوات يتفطرن منها. فغلَّقتُ الأبوابَ ودعوتُ الرب الوهاب، وطرحتُ بين يديه وخررتُ أمامه ساجدا .. وقلت يا رب انصر عبدك وَاخْذُلْ أعداءك! استجِبْني يا رب استجِبني! إِلاَمَ يُستهزأ بك وبرسولك؟ وحَتَّامَ يكذِّبون كتابك ويسبون نبيك؟ برحمتك أستغيث يا حي يا قيوم يا معين" (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج5 ص569)
يتضح - بلا أدنى ريب - من هذا الدعاء أنه لم يكن هناك أي دافع شخصي للخلاف بين سيدنا أحمد وأسرة محمدي بيغم كما يزعم خصوم الأحمدية. بل بالعكس، لقد ابتهل إلى الله جل وعلا أن يسمع دعاءه ويخزي أعداء الإسلام الذين أنكروا وجود الله وسبّوا نبيه محمدًا المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وعابوا كتابه القرآن الكريم. (المرجع السابق) فرَحِمَ ربُّه تضرعاتِه وزفراتِه وعبراتِه وناداه قائلا:
"إني رأيت عصيانهم وطغيانهم، فسوف أضربهم بأنواع الآفات، وأبيدهم من تحت السماوات، وستنظر ما أفعل بهم، وكنا على كل شيء قادرين." (المرجع السابق)
فعل الله ذلك استجابةً لابتهالات سيدنا أحمد التي تضرع فيها أن يصون اللهُ تعالى، ليس فقط كرامة سيدنا أحمد، وإنما كرامة الله - عز وجل - قبل ذلك، وكرامة نبيه محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وكرامة كتابه القرآن المجيد.
ومِن ثم فإن الاحتجاج ضد هذه النبوءة - وهو ما يفعله خصوم سيدنا أحمد - يعادل القولَ بأن هذه العائلة التي ألحد كثير من أعضائها .. قد نجحت - معاذ الله - في إحباط مشيئة الله جل وعلا. والدليل على ذلك هو أن الوثيقة التي نشرها بعض كبار أسرة محمدي بيغم، والغرضَ الذي ابتهل سيدنا أحمد من أجله إلى الله تعالى .. يتعلقان أساسًا بوجود الله تعالى، وبصدق سيدنا محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وصدقِ القرآن الكريم. (جريدة "جشمه نور" أمرتسار 13/ 8/1885م)
ثم إن سنة الله السارية هي أنه لا يعذب عباده قبل أن يرسل إليهم من ينذرهم .. ذلك كي يتيح للمذنبين فرصة ليتوبوا ويصلحوا. فإن استمعوا واستجابوا للتحذير فتابوا وانصلحوا نظر إليهم ربهم الغفور الرحيم نظرة رحمة حسب وعده: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} (سورة المائدة:40) ولم تكن ذرية عائلة محمدي بيغم استثناء من هذه القاعدة المقررة. لذلك فإن الله تعالى- مع تحذيره لهم بعقاب وشيك بسبب سوء فعلهم - ما كان ليعذبهم قبل أن يمنحهم فرصة التوبة والإصلاح .. وهذا واضح في كثير من الأنباء السماوية التي تنزلت على سيدنا أحمد. فمثلا حذر حضرته هذا الفرع من أسرة محمدي بيغم بأن الله تعالى أخبره:
"لا أهلكهم دفعة واحدة بل قليلا قليلا لعلهم يرجعون ويكونون من التوابين. إن لعنتي نازلة عليهم وعلى جدران بيوتهم، وعلى صغيرهم وكبيرهم، ونسائهم ورجالهم، ونزيلهم الذي دخل أبوابهم، وكلهم كانوا ملعونين .. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقطعوا تعلُّقَهم منهم وبعدوا من مجالسهم فأولئك من المرحومين." (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج 5 ص569)
وفي إعلان آخر حذرهم سيدنا أحمد من أن الله تعالى قرر:
"كل فرع من أبناء عمومتك سوف يُقطَع وينتهي بلا ذرية. إذا لم يتوبوا فإن الله سوف يرسل عليهم البلاء بعد البلاء حتى يهلكهم. سوف تمتلئ بيوتهم بالأرامل، وسوف ينْزل غضبه على جدرانهم." (جريدة "رياض الهند"، بتاريخ 20/ 2/1886م)
وفي مناسبة أخرى حذر سيدنا أحمد أحد أعمام محمدي بيغم - الميرزا إمام الدين - أن الله تعالى قدّر معاقبته إذا لم يتب. ومع ذلك صرح سيدنا أحمد بأن الله تعالى أخبره: "إذا تاب حسنتْ خاتمته، ورغم التحذير يفوز بالراحة." (سرمه جشم آريا، الخزائن الروحانية ج2 ص191)
وفيما يتعلق بوالدَي محمدي بيغم - الميرزا أحمد بيك وأمير النساء - بصفة خاصة فقد تنبأ سيدُنا أحمد فقال:
"فأُلهمت من الرحمن أنه معذبهم لو لم يكونوا تائبين. وقال لي ربي: إن لم يتوبوا ولم يرجعوا فننزل عليهم رجسًا من السماوات ونجعل دارهم مملوءة من الأرامل والثيبات، ونتوفاهم أباتِرَ مخذولين. وإن تابوا وأصلحوا فنتوب عليهم بالرحمة، ونغير ما أردنا من العقوبة فيظفرون بما يبتغون فرحين" (أنجام آثم، الخزائن الروحانية ج 11ص 212)
تؤكد إلهامات سيدنا أحمد أن المصائب الوشيكة التي قُدِّرَ نزولها على المرتدين من أعضاء هذا الفرع من الأسرة كانت كلها مشروطة، وتتوقف على موقف المنذَرين في المستقبل. إذا أرادوا استطاعوا بالتوبة إنقاذ أنفسهم من العقاب المقرر لهم. أما إذا صدوا ولم ينفكوا عن عدوانهم ظلوا عرضة لما قُدِّرِ لهم من نقمة الله ومقته. والواقع أن دراسة موضوع الخلاف كله بعقل متحرر أمين .. تكشف للباحث أنه طوال الفترة التي كانت فيها أسرة محمدي بيغم تحت مظلة الغضب الإلهي .. كان سيدنا أحمد دائمًا يلتمس منهم مرارًا وتكرارًا أن يتوبوا وينقذوا أنفسهم من العذاب المحتوم وينصحهم في تعاطف صادق. قال حضرته:
"فنصحت لهم إتمامًا للحجة وقلت: استغفروا ربكم ذا المغفرة." (المرجع السابق)
ثم في إعلان آخر صرح سيدنا أحمد أنه في إحدى الرؤى رأى امرأةً باكية من أسرة الميرزا أحمد بيك، فنصح جدة محمدي بيغم لأمها قائلا:
"أيتها المرأة توبي توبي فإن البلاء على عقبك." (المرجع السابق ص214)
ولكن أفراد هذه الأسرة - لسوء حظهم- اشتدوا غطرسةً، فأبَوا قبول النصح، فغازلوا النصرانية لفترة من الزمن (جريدة "جشمه نور"، أغسطس 1885م، وجريدة "نُور أفشان"، بتاريخ 10/ 5/1888م)
ثم ارتد عدد من أعضائها البارزين وانضموا إلى دين آريا سماج - وهي منظمة هندوكية وقفت نفسها لتخريب القيم الإسلامية في القارة الهندية. (جريدة "رياض الهند" المجلد الأول رقم 16) وبعد عدة سنوات تحول عدد كبير من أعضاء هذه الأسرة إلى الإلحاد معلنين على الملأ:
"لا حاجة لنا إلى الله ولا إلى كتابه ولا إلى رسوله خاتم النبيين. وقالوا لا نتقبل آية حتى يرينا الله آية في أنفسنا. وإنا لا نؤمن بالفرقان، ولا نعلم ما الرسالة وما الإيمان، وإنا من الكافرين." (كرامات الصادقين، الخزائن الروحانية، ج7 ص162)
ولما كان تقدير الله تعالى ألا يهلكهم بضربة واحدة وإنما شيئًا فشيئًا لعلهم يرجعون .. شرَعَ الله تعالى يحقق كلمته، وتعرضتْ أسرة محمدي بيغم لسلسلة من المصائب كما كان مقدَّرًا من قبل. ففي مسلسل الفواجع التي بدأت في الشهر الحادي والثلاثين من يوم إعلان النبوءة الأولى ضد هذه الأسرة .. فُجع عم محمدي بيغم - الميرزا نظام الدين - فجيعةً هائلة في ابنته الشابة التي ماتت في سن الخامسة والعشرين .. تاركةً وراءها طفلتها الرضيعة.
كان المفروض أن يكون لهذه المأساة وقع ثقيل على أسرة محمدي بيغم، ولكن للأسف قست قلوبهم، ووجدهم سيدنا أحمد يُمعنون في تمردهم، ويستمرون في الهزء بالإسلام كأعداء الدين.
وعلى إثر ذلك مات الميرزا نظام الدين تاركًا خلفه ابنه الميرزا جُلْ محمد وابنته، وكان هذان من الحكمة والتُّقى بحيث دخلا في الإسلام على يد سيدنا أحمد. أما أخو الميرزا نظام الدين وهو الميرزا إمام الدين فقد ترك ابنة واحدة هي خورشيد بيغم .. التي بايعت سيدنا أحمد كما فعل ابن عمها الميرزا جُلْ محمد وأخته. وبعد ذلك تزوجت خورشيد بيغم من ابن سيدنا أحمد وتزوجت حفيدتها من أحد أحفاد سيدنا أحمد.
والأخ الثالث للميرزا نظام الدين هو الميرزا كمال الدين .. بقي في قاديان ليتنسك ويقضي بقية أيامه في المقابر والخانقاهات بالهند. وبعدها خصّى نفسه وتندم على أفعاله، وقاسى نهاية تعيسة ومات بلا ذرية.
وكانت بداية هذه النبوءة الشهيرة بنبوءة محمدي بيغم هي أن شاءت الأقدار أن احتاج والدا محمدي بيغم مساعدةً من سيدنا أحمد في بعض الأمور الخاصة بأملاك الأسرة. ولذلك ذهب أبوها الميرزا أحمد بيك إلى سيدنا أحمد - عليه السلام - يلتمس مساعدتَه في وداعة وتواضع شديدين. وكان سيدنا أحمد مَيَّالا لإسداء المعروف الذي طلبه الرجل، فأخبره أنه سيردّ عليه بعد أن يستخير الله جل وعلا كما هي عادته في كل الأمور الهامة. قال سيدنا أحمد بعدها:
"وبسبب إلحاحه استخرتُ الله، فكانت مناسبة يُبدي الله تعالى فيها آيته." (مجموعة الإعلانات ج1 ص 157 إعلان 10/ 7/1888م)
أخبر سيدنا أحمد الميرزا أحمدَ بيك أن الله تعالى أمره أن ينصح الميرزا أحمد بيك لينشئ علاقةً مع سيدنا أحمد بأن يزوِّجه من ابنته الكبرى محمدي بيغم، فينوَّر بنوره. (المرجع السابق)
والعارفون بتقاليد العائلات في الهند يعلمون أن طلب الزواج علنًا من ابنة عدو، وخصوصًا في الأسر من أصل إقطاعي، ربما يعتبر أشدَّ وسيلة لمضايقة الخصم وإذلاله. فكأن الله تعالى بحكمته الأزلية قرر أن يضرب هذا الفرع - وهو من أسرة كريمة المحتد أصلا - بأسلوب أشدَّ ما يكون إيلامًا، وإلا فلا يُتصور أن يرغب سيدنا أحمد في إقامة علاقة زواجٍ مع أسرة بعيدة كل هذا البعد عن الإسلام.
في ذلك الوقت كان سيدنا أحمد في الثالثة والخمسين من عمره، متزوجًا من سيدة تقية تنتمي إلى أرومة نبيلة: السيدة نصرت جهان بيغم؛ من ذرية "نواب مير درد" أحد أولياء الله المعروفين من دلهي، الهند. وكانت حياة سيدنا أحمد قبل زواجه من هذه السيدة عام 1884م تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه كان رجلا لا يبالي بالمتع الدنيوية. ويتضح ذلك من واقع أن حضرته عند انفصاله عن زوجته الأولى: السيدة حُرمت بي بي .. لم يكن قد بلغ 21 عاما بعد .. فمكث 28 عاما بعدها دون أن يتزوج مرة ثانية. بل بالعكس عاش أعزَبَ مكرِّسًا شبابه في خدمة الإسلام، وبقي مكتفيا بجهوده ومساعيه الدينية والأدبيّة. ومن ثَم لا يسع أحدًا يتمتع بحاسة الإنصاف والعدل أن ينسب إلى سيدنا أحمد أيَّ رغبات دنيوية في تلك الحقبة من حياته. وبغض النظر عن مزاعم خصومه .. فإنه كان راغبًا عن الزواج من محمدي بيغم، وأعلن بوضوح غير مشروط أنه لا حاجة له في هذا الزواج لأن الله تعالى كفاه بكل احتياجاته. (المرجع السابق، إعلان 15/ 7/1888م)
والواقع أنه كتب إلى صديقه المخلص وموضع سره: مولانا الحكيم نور الدين .. أنه منذ تلقّي الإلهام الرباني عن الزواج، كان نافرًا منه بطبيعته؛ وتمنّى لو ظل القدر الإلهي متوقفًا. وصرح أيضا عن الزواج الثاني:
"لقد صمّمتُ أنه مهما كانت خطورة الموقف فلسوف أتحاشاه إلا أن أضطر إليه بأمر صريح من الله تعالى، لأن أعباء الزواج المتعدد ومسئولياته غير الملائمة كثيرة للغاية. كما أن فيه شروطا جمة لا يستطيع توفيتها إلا من كلفهم الله تعالى بحملها ويكون ذلك بتقدير خاص منه، ولغرض خاص، وأيضا عن طريق اتصال ووحي خاص". (رسالة بتاريخ20/ 6/1886م)
فإذا كان خصوم سيدنا أحمد بعقولهم الناقصة وخيالهم المريض يصرّون - رغم هذه الحقائق الثابتة - على إهانة هذا العبد التقي النقي من عباد الله تعالى، ويشككون في مقاصده العفيفة الطاهرة التقية .. فلا يسع المرء إلا التعزي بأن أعظم الطاهرين المطهرين .. سيدنا محمد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - أيضًا لم يَسْلَم من مثل هذا النقد الشنيع. أوَلا يدرون بأن الفَجَرَة من أمثال "فرويد" في الغرب ما برحوا لقرون طويلة يسخرون ويتهكمون على نبينا الحبيب - صلى الله عليه وسلم - بسبب زواجه من السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها .. مطلَّقةِ متبناه السابق سيدِنا زيد - رضي الله عنه -؟ أليس من مقتضيات الحكمة والضرورة البالغة عند من يخشون الله تعالى أن يتحرَّوا الحرصَ والحذر فيما يتعلق بحياة هذه الشخصيات المقدسة .. الذين تخلُو حياتهم من أي شائبة؟ أم يفضّل هؤلاء العائبون على رسل الله تعالى أن يدخلِوا أنفسهم فيمن قيل عنهم: الحمقى يندفعون في طريق تخشى دخوله الملائكة.
قلنا إن الله تعالى أمر سيدنا أحمد أن يُخطر والد محمدي بيغم: الميرزا أحمد بيك أن ينشئ علاقة معه فيقتبس من قبسه، فكان على سيدنا أحمد أن يطيع أمر ربه ويعظ والدَ محمدي بيغم. وهذا ما فعله عندما أبلغه رسالةَ الله تعالى وفحواها:
"إن الله أخبرني أن إنكاحها رجلا آخر لا يبارَك لها ولا لك. فإن لم تزدجر فيُصَبُّ عليك مصائب، وآخرُ المصائب موتك، فتموت بعد النكاح إلى ثلاث سنين. بل موتك قريب ويَرِدُ عليك وأنت من الغافلين. وكذلك يموت بعلها الذي يصير زوجها إلى حولين وستة أشهر قضاءً من الله. فاصنع ما أنت صانعه، وإني لك من الناصحين." (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج 5 ص 573)
وللأسف ظل الميرزا أحمد بيك في تمرده، وعامَلَ مشورةَ سيدنا أحمد بازدراء، وبذل كل ما في وسعه علانيةً للسخرية من سيدنا أحمد. وتآزر ميرزا أحمد بيك وأسرته مع دعاة النصرانية في نشر رسالة سيدنا أحمد في صحيفة نصرانية. (جريدة "نور أفشان"، لدهيانه، 10/ 5/1888م)، مما تسبب في انتقادات كثيرة لم تنل من سيدنا أحمد بقدر ما نالت من الإسلام نفسه. (جريدة "آريا بتريكا"، لاهور، 16/ 6/1888م)
وهكذا استثارت أسرةُ الميرزا أحمد بيك غَضَبَ اللهِ عليها، وأخذت عجلاتُ الغضب الإلهي تدور وتطحن. وفي أول سلسلة المآسي فَقَدَ والدُ محمدي بيغم الميرزا أحمد بيك ابنَه الميرزا محمد بيك في يوليو 1890. ولقد أرسل سيدنا أحمد تَعازِيَه لهم، وأكد للوالد المحزون مشاعرَه الصادقة وتعاطفَه قائلا:
"قد يكون قلبك متكدرًا من ناحيتي، ولكن الله العليم يعلم أن قلب عبده المتواضع هذا نقي تمامًا، وأرجو لك الخير في كل سبيل." (حياة أحمد ص245)
فلما أصرَّ الميرزا أحمد بيك على كبره، وزوّج ابنتَه للميرزا سلطان محمد في أبريل 1892 وقعت ضحيةً للنبوءة جدة محمدي بيغم لأمها التي رآها سيدنا أحمد - عليه السلام - في رؤياه ونصحها قائلا: أيتها المرأة توبي توبي فإن البلاء على عقبك. كما ماتت شقيقتا ميرزا أحمد بيك والد محمدي بيغم. ومع ذلك لم يعتبر ميرزا أحمد بيك فهلك بعد ستة أشهر من الزواج المشؤوم بمرض التيفوئيد في سبتمبر 1892. (تاريخ الأحمدية ج2)، وبذلك تحققت نبوءةُ 10/ 7/1888 التي جاء فيها: "يموت في حدود ثلاث سنوات من زواج ابنته." (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج 5 ص573)
وتسجل الوقائع التاريخية أن موت والد محمدي بيغم بعد زواجها بفترة قصيرة قد دمّر الأسرة كلها، وكان له وقع عنيف على معنوياتهم بحيث اعترف أعضاء الأسرة علنًا بأن نبوءة سيدنا أحمد قد تحققت. (أنجام آثم، الخزائن الروحانية ج 11 ص219)
ومما سجلته وقائع التاريخ أيضًا أن أسرة الميرزا أحمد بيك توقفت بعد ذلك عن أسلوب البذاءة نحو الله تعالى ورسولِه الكريم محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وكتابِه المجيد القرآن الكريم. والواقع أنه مع توالي الأحداث .. أخذتْ هذه الأسرة تتحول نحو الإسلام طلبا للعزاء، وسعى أعضاؤها إلى طلب العفو والمغفرة عن سوء أفعالهم، بل توسلوا إلى سيدنا أحمد أن يدعو الله جل وعلا، كي يرفع عنهم برحمته الواسعة ما قدّر لهم من عذاب وشيك، ويزيل عنهم اللعنة التي كتبت عليهم. وهي حقيقة اعترف بها حتى المولوي ثناء الله الأمرتساري .. الذي لم يكن أقلَّ عداء نحو سيدنا أحمد. (إلهامات الميرزا ص69)
فإذا بذلك الجيل الذي كان ينكر وجود الله جل وعلا ويسبّ رسولَه الكريم - صلى الله عليه وسلم - ويهين كتابه العظيم .. يعود ليدخل في الإسلام على يد سيدنا الميرزا غلام أحمد. لقد فعلوا ذلك لأنهم أيقنوا أن نبوءة سيدنا أحمد عن عائلتهم قد تحققت بجلاء، وأن الملاذ الوحيد أمامهم هو الندم والتوبة والتماس الغفران.
ومن بين أولئك التائبين الذين دخلوا في الإسلام وآمنوا بدعوة سيدنا أحمد - عليه السلام -: السيدة قمر النساء بيغم أرملةُ الميرزا أحمد بيك ووالدةُ محمدي بيغم، وعنايت بيغم ومحمودة بيغم وأخوهما الميرزا محمد بيك، كما الميرزا إسحاق بيك ابن محمدي بيغم، والميرزا أحمد حسن زوجُ ابنة الميرزا أحمد بيك، والميرزا جُلْ محمد وأخته .. وهما ابنا الميرزا نظام الدين الباقيان، وحُرْمَتْ بي بي خالة محمدي بيغم وابنتها، وطائي صاحبة وخورشيد بيغم. (تاريخ الأحمدية ج2)
على ضوء سنة الله تعالى المقررة التي تحدثنا عنها في الفصل الأول من هذا الكتاب .. يتوقع المرء عند هذه اللحظة - وقد شرعت أسرة محمدي بيغم المعارضةُ "تتوب وتسأل الله المغفرة" - أن الله تعالى برحمته الواسعة يلغي قرارَ العقوبة الذي صدر ضدهم .. حيث لم يعد هناك سبب لاستمرار معاقبتهم. وهذا هو تمامًا ما فعله الله تعالى كما يتبين من الأحداث التالية مصداقًا لوعده تعالى: "إن تابوا وأصلحوا أتوب عليهم برحمتي، وأردّ عنهم ما أردنا من العقوبة، ولسوف ينزل بهم ما يختارون." (أنجام آثم، الخزائن الروحانية ج11 ص211)
وإذا مَارَى أحد بعد ذلك وقال بأن أسرة محمدي بيغم كانت تستحق مزيدًا من العقاب .. لكان هذا قمةَ التضليل. لقد تبين بعدما نزل العقاب بالأسرة المعارضة أنهم توقفوا عن العدوان والتمسوا الغفران. وأثبتت الأسرةُ أيضا حسنَ نواياها عندما بايع أفرادها بيعة الإخلاص على يد من بعثه الله تعالى إماما مهديا ومسيحا موعودا .. سيدِنا الميرزا غلام أحمد القادياني عليه الصلاة والسلام، فكيف يعذب الله تعالى هؤلاء القومَ وهو القائل: {عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ فسأكتبها للذين يتقون} (سورة الأعراف: 157)
ألم يبشر مالكُ يوم الدين ورب الرحمة والمغفرة .. بني الإنسان جميعًا فقال عَزَّ مِن قائل: {فمن تاب مِن بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} (سورة المائدة:40)
ومن العجيب أن الأسرة التي تأثرت بالنبوءة اعترفت بتحققها وعادت إلى سيدنا أحمد .. ومع ذلك لا يزال الخصوم يجادلون إلى اليوم بعكس ذلك .. على أساس أن محمدي بيغم لم تتزوج من سيدنا أحمد. يتشبثون بهذا القول على الرغم من أن النبوءة لم تستبعد زواجَها من رجل آخر في أي مرحلة كانت، ولم يكن زواجُها من سيدنا أحمد هو الغرض الأساسي من النبوءة .. بل على العكس، كانت النبوءة وسيلةً مقترحة لتحقيق الغرض النهائي كما بينته النبوءة، ألا وهو رجعة الجاحد الضال إلى الهداية .. وهذا ما ثبت ثبوتًا كافيًا من نصوص النبوءات ضد الأسرة المنشقة. (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج5 ص566 و574)
وما أن تحقق الغرض النهائي بتوبة الأسرة ودخولِها الفوري في الإسلام بعد موت أحمد بيك .. كان مقتضى العدل الإلهي أن يتحقق أيضا الشطر الثاني من النبوءة - أي الغفران الذي كان معلَّقًا بشرط أن تتوب الأسرة المشاكسة .. فيتوب الله عليهم بالرحمة والغفران. فمغفرة الله تعالى لميرزا سلطان محمد ومحمدي بيغم .. هو في الواقع دليل إضافي على تحقق النبوءة في مجموعها، ولا يتضمن أي تكذيب لها.
وقد لا يتوقف خصوم سيدنا أحمد عن إنكار تحقُّق النبوءة، ولكن السجلات التاريخية تبين أن نفس الأسرة التي كان مقدرا لها أن تقاسي وطأةَ الغضب الإلهي قد اقتنعت تمامًا أن نبوءة سيدنا أحمد بصددهم قد تحققت إلى مداها بحسب مشيئة الله تعالى. فقد أقر الميرزا إسحاق بيك ابن محمدي بيغم بنهاية جده الزرية فقال: "لقد مات جدي الميرزا أحمد بيك نتيجة للنبوءة، وأصيبت الأسرة كلها بالخوف فأصلحوا أنفسهم. والدليل القاطع على ذلك أن معظم الأسرة دخل في الأحمدية." (جريدة "الفضل" 26/ 2/1923م)

فهل يدّعي خصوم سيدنا أحمد بأنهم يعرفون عن تحقق هذه النبوءة أكثر ممن كانوا من هذه الأسرة نفسها، وشهدوا كل مراحل تحققها؟ لقد قدم الميرزا سلطان محمد زوجُ محمدي بيغم دليلا حسنًا على موقفه تجاه سيدنا أحمد - عليه السلام - من خلال رسالته التي كان نشرها آنذاك، وهذا نصها:


وترجمة رسالته كالآتي:
"لقد كنتُ ولا زلت أعتقد بأن السيد الميرزا كان شخصًا صالحًا ومبجَّلا وخادمًا للإسلام، وكان ذا نفس شريفة، وكان في ذكر دائم لله تعالى. إني لا أضمر أي معارضة لأتباعه، ويؤسفني أني - لأسباب معينة - لم أنل شرف لقائه في حياته." ("تشحيذ الأذهان"، مايو 1913م)
هذه الشهادة المسجلة المحفوظة لهي دليل على أن الميرزا سلطان محمد كان على قناعة بأن نبوءة سيدنا أحمد قد تحققت بالقدر الذي شاءه الله تعالى. والواقع أن الميرزا سلطان محمد صرّح في حديث له نُشرتْ تفاصيلُه في حياته فقال: "زمنَ النبوءة عَرَضَ عليّ الآريا الهندوسُ - بسبب ليخ رام؛ والنصارى بسبب آثم. (وكانا هلكا بسبب المباهلة مع سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود - عليه السلام -) .. مبلغ مئة ألف روبية لأقيم دعوى قضائية ضد حضرة الميرزا. ولو أني قبلتُ المبلغ لأصبحت غنيًا .. ولكن إيماني العظيم في حضرته منعني من الإقدام على ذلك". (جريدة "الفضل" بتاريخ 9/ 6/1921م)
وإن تصريح الميرزا سلطان محمد المنشور في أعمدة جريدة "الفضل" .. يدل أيضا على أنه كان مقتنعًا تمامًا بصدق سيدنا أحمد في دعواه، وهي حقيقة يؤكدها إعلانه التالي:
"أُعلنُ غيرَ حانثٍ أني على إيمان راسخ بسيدنا الميرزا صاحب .. قد لا تستطيعون أن تدّعوه وأنتم أتباعُه." (المرجع السابق)
وعلى أي حال، فإن الميرزا سلطان محمد لم يكن الوحيد الذي اعتقد بأن نبوءة سيدنا أحمد بصدد أسرة محمدي بيغم قد تحققت بالروح التي قدرها الله تعالى، فهناك المولوي محمد حسين البطالوي .. شيخُ جماعة أهل الحديث بالهند .. الذي يحترمه معظم أعداء الأحمدية، والذي كان خصمًا لدودًا لسيدنا الميرزا غلام أحمد .. شَهِدَ بنفسه موضوعَ الخلاف بين سيدنا أحمد وأسرةِ محمدي بيغم، وكان يعلم جيدًا بموضوع النبوءة التي تمت ضد هذه الأسرة. ورغم أنه كان يعتبر تشويه سمعة سيدنا أحمد مهمتَه التي نذر نفسه لها .. لكن المولوي محمد حسين البطالوي شَهِدَ الميتةَ الزرية للميرزا أحمد بك وصرح قائلا: "ومع أن النبوءة قد تحققت .. إلا أن ذلك كان راجعًا لعلم التنجيم"!! (مجلة "إشاعة السنة" المجلد الخامس)

الفصل الثالث

المباهلة مع المولوي ثناء الله الأمرتساري

تمثِّلُ مباهلة أحمد - عليه السلام - مع المولوي الأمرتساري وعواقِبُها حدثًا آخر في حياة سيدنا أحمد يزعم خصومه أنه قد انقلب عليه.
كان المولوي ثناء الله الأمرتساري محرِّرًا مساعدًا في الجريدة الأسبوعية "أهل الحديث"، وكان معارضًا متحمسًا لسيدنا أحمد مثل كثير من المُلاَّت (المشايخ المتعصبين) المعاصرين له، ولم يَدَعْ فرصة لسبِّه تفلت منه.
وفي عام 1897م كتب سيدنا أحمد كتابه "أنجام آثم" توجّه فيه إلى بعض رجال الدين المتعصبين في الهند الذين أطلقوا عليه اسم "المدعي الكاذب"، وتحداهم للدخول في مباهلة، وكان اسم المولوي ثناء الله ضمن القائمة التي تضم أسماء هؤلاء المشايخ المتعصبين. كان سيدنا أحمد عندئذ قد بلغ من العمر 62 عاما؛ في حين كان المولوي الأمرتساري شابًّا عمره 29 عامًا.
تدل السجلات التاريخية أن المولوي الأمرتساري تجاهَلَ هذا التحدي لمدة 5 سنوات، ولكنه في عام 1902م - ربما تحت ضغط من بعض زملائه - بادر وتحدى سيدَنا أحمد إلى المباهلة. وما أن تلقَّى حضرتُه إعلانَ المولوي الأمرتساري حتى نشره مشفوعًا بقبول ما عرضه المولوي وصرح فيه بقوله:
"لقد اطلعت على إعلان المولوي ثناء الله الأمرتساري الذي يدعي فيه أن لديه رغبةً مخلصة في أن يدعو كلٌّ منا بأن يموت الكاذبُ منا في حياة الآخر." (إعجاز أحمدي ص 14، الخزائن الروحانية ج19 ص121)
وكان سيدنا أحمد يعرف طبيعةَ المولوي الأمرتساري الرِعْديدة، فصرح حضرته بأن الأمرتساري قد قدَّم اقتراحًا جيدًا، ونأمل أن يظل متمسكا به. (المرجع السابق) ثم أضاف:
"إذا كان المولوي ثناء الله مخلصا في تحديه بأن يهلك الكاذبُ قبل الصادق .. فلسوف يموت ثناء الله أولا". (مجموعة الإعلانات، ج3 ص578)
وعندئذ بادر المولوي الأمرتساري إلى التراجع السريع متعللا بقوله:
"أنا لست نبيًّا ولا أدّعي مثلَك النبوة أو الرسالة أو البُنُوّة لله أو تلقِّي الوحي، ومن ثم لا أجرؤ على الدخول في مثل هذه المعركة. إن مؤدَّى اقتراحك هو أني لو مُتُّ قبلك فستعلنه كدليل على صدقك، وإذا مُتَّ أنت قبلي - وهو تخلص جيد - فمن ذا الذي سيذهب إلى قبرك ويحاسبك؟ هذا هو السبب في عرضك هذا الاقتراح السخيف. ومع ذلك فإني أعتذر بأني لا أجرؤ على الدخول في هذه الخصومة، ونقصُ شجاعتي هذا مصدر شرف وليس تحقيرًا لي." (إلهامات الميرزا ص112)
وهكذا تراجَعَ الأمرتساري عن المضي في المباهلة التي أثارها بنفسه؛ ومن ثم فإن المباهلة التي قبِل بها سيدنا أحمد في كتابه "إعجاز أحمدي" .. أصبحت غيرَ ذات موضوع.
وبالرغم من هذا فإن تراجُع الأمرتساري عن تحديه أصبح مصدرَ إحراج لزملائه، وتعرَّضَ لنقدٍ قاسٍ منهم، مما دفعه - بعد خمس سنوات أخرى - ليصدر تحديًا جديدًا يدعو فيه أعضاءَ الجماعة الإسلامية الأحمدية ليتقدموا ومعهم سيدنا أحمد، فقال:
"الذي تحدانا إلى المباهلة في كتابه "أنجام آثم" أَرْغِموه على مواجهتي، لأنه ما لم يصدر حكمٌ فاصل في أمر نبي فإن أتباعه لا يجدون شيئًا يربطهم به." (جريدة "أهل الحديث" 29/ 3/1907م ص10)
وعندما قرأ سيدنا أحمد تحديه الأخير كتب محرِّرُ جريدة الجماعة الإسلامية الأحمدية "بدر" ليعلن:
"ليفرح المولوي ثناء الله بأن سيدنا الميرزا صاحب قد قَبِلَ تحديه. فعليه أن يعلن إعلانًا جادًّا بأن حضرة أحمد مزوِّرٌ في ادعائه. ثم يدعو ثناء الله أنه إذا كذب في قوله فلتنزل لعنة الله على الكاذب. (جريدة "بدر"، يوم 4/ 4/1907م)
ولكن الأمرتساري - كما بدا منه آنفًا - اعترف بأنه لا يجرؤ على الدخول في مثل هذا الخصام. ومن ثم تحوَّلَ عن موقفه مرة أخرى وأعلن على الملأ:
"إني لم أتَحدَّك للمباهلة بل أعلنت استعدادي للحلف، ولكنك تسميه مباهلة في حين أن المباهلة تتضمن أن يحلف الفريقان ضد بعضهما. لقد أعلنت استعدادي للحلف ولم أشرع في مباهلة. إن القسم من جانب واحد شيء والمباهلة شيء آخر. (جريدة "أهل الحديث" ليوم 19/ 4/1907م)
إن اقتراح المولوي الأمرتساري يعني أنه لم يُرد من سيدنا أحمد أن يدعو ليستنزل اللعنة على المولوي الأمرتساري، في حين أنه نفسه مستعد لاستنزال اللعنة من جانبه وحده على سيدنا أحمد! ومع ذلك فإن الأمرتساري بتراجعه هذا قدّم الدليلَ مرة أخرى أنه يروغ من موقفه الأصلي .. مع أنه طلب من سيدنا أحمد طلبًا صريحًا واضحًا كي تتم المواجهة بينهما.
وعندما لاحظ سيدُنا أحمد أن المولوي الأمرتساري لم يكن مستعدًّا ليتخذ موقفًا محددًا في الخلاف .. صرّح حضرته يوم 15/ 4/1907 م بهذا الدعاء:
"اللهم افْصِلْ بيني وبين المولوي ثناء الله. واجعل مثير الفتنة الفعلي الكاذب يهلك في حياة الصادق! " (الفصل النهائي في الخلاف مع المولوي ثناء الله الأمرتساري، مجموعة الإعلانات ج3 ص 579)
أُرسل هذا الإعلان إلى المولوي الأمرتساري مع طلبٍ لنشره في جريدته "أهل الحديث"، واختتم الإعلان بتصريح من سيدنا أحمد يقول فيه:
"وأخيرا أرجو من المولوي ثناء الله أن ينشر تصريحي هذا في صحيفته "أهل الحديث"، ويعلق في نهايته بما يشاء، ويترك الحكم لله تعالى." (المرجع السابق)
فأوضح الأمرتساري موقفه بقوله:
"هذه الوثيقة غير مقبولة لدي، ولا يقبل أي إنسان عاقل بالموافقة على مثل هذا التحدي. وإني أرفض هذا العرض الذي نشرتَه. (جريدة "أهل الحديث" ليوم 26/ 4/1907م)
ولم يقتصر المولوي الأمرتساري على رفض تحدي سيدنا أحمد له، بل بلغ به خوفه من عواقب دعاء سيدنا أحمد أن اشتكى قائلا:
"لا يمكن أن أدخل طرفًا في هذا التحدي، لأنه لم تؤخذ مني موافقةٌ على هذا الدعاء، ونُشر فحواه دون علمي." (المرجع السابق)
كان الأمرتساري ولا ريب خائفًا أنه لا بد ميت ميتة لعينة لو تجاسر على دخول المباراة مع سيدنا أحمد .. ومن ثَمَّ سأل:
"كيف يمكن أن يكون موتي آيةً للآخرين في حين أنك تقول بأن المولوي دستغير القصوري والمولوي إسماعيل العليكرهي والدكتور دوئي الأمريكي وغيرهم قد ماتوا بنفس الطريقة؛ فهل آمَنَ بك الآخرون؟ وهكذا لو حدث الموت فما النفع في ذلك؟ (المرجع السابق)
ثم طلب المولوي الأمرتساريُّ من سيدنا أحمد:
"أَرِني آيةً أشهدها بنفسي. لو أني مُتُّ فماذا أستطيع رؤيتَه"؟ (المرجع السابق)
وبحسب نص هذا الجواب لتحدِّي سيدنا أحمد اقترح المولوي الأمرتساري معيارًا جديدًا تمامًا لتسوية هذا الموضوع فيما بينه وبين سيدنا أحمد حيث قال لمؤسس الأحمدية:
"يقول القرآن الكريم إن الله يمهل المجرمين. فمثلا يقول تعالى: {من كان في الضلالة فَلْيَمْدُدْ له الرحمن مَدًّا} (مريم: 76)، ويقول: {إنما نُملي لهم ليزدادوا إثمًا} (آل عمران: 179)، ويقول: {ويمدّهم في طغيانهم يعمهون} (البقرة: 16)، ويقول: {بل متّعنا هؤلاء وآباءَهم حتى طال عليهم العمر} (الأنبياء: 45). كل هذه الآيات تعني بوضوح أن الله يمهل ويمنح حياة طويلة للكذابين والخادعين ومعكِّري السلام والعصاة الفاسقين، كي تزداد آثامهم في فترة المهلة. فكيف إذن تقترح قاعدة بأن مثل هؤلاء الناس لا ينالون فسحة طويلة من العمر؟ " (جريدة "أهل الحديث" ليوم 26/ 4/1907م)
وحاوَلَ الأمرتساري بعد ذلك أن يؤسس صحة اعتقاده هذا بأن الكاذبين - وليس الصادقين - هم الذين يمنحهم الله تعالى عمرًا أطول، مستشهِدًا بالتاريخ الإسلامي، فاحتج قائلا:
"على الرغم من حقيقة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان نبيًّا صادقًا من الله تعالى، وأن مسيلمة كان مدعيًا كاذبًا .. فإن هذا بَقِيَ حيًّا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو بعبارة أخرى: إن مسيلمة الكذاب مات بعد موت الصادق." (كتاب "مرقّع قادياني"، طبعة أغسطس 1907م)
من هذه المحاورة بين سيدنا أحمد والمولوي الأمرتساري وما ساقه هذا من أعذار للرد على إعلان سيدنا أحمد .. يتبين أن المسألة قد تحولت تمامًا إلى وجهة جديدة. في بادئ الأمر كان المعيار لتحديد الصادق من الطرفين هو موت الكاذب في حياة الصادق. ولكن اعتراضات المولوي الأمرتساري قامت على مبدئه الراسخ في ذهنه بإصرار وعناد بأن الله يمهل الكاذبين ويمنحهم حياة طويلة كي يزدادوا إثمًا. وبذلك أرسى هو من عند نفسه معيارًا جديدًا للفصل في النزاع وحسم الخلاف، ذلك أن الأشرار يُمهَلون وينالون عمرًا أطول كي يُمعِنوا في عدوانهم وتتضاعف سيئاتهم.
ومن دواعي الندم للمولوي الأمرتساري أن سيدنا أحمد قَبِلَ توضيحه هذا، وصرّح:
"قد اقتَرَحَ معيارًا مختلفًا تمامًا بأن الكاذب يعيش أطولَ من الصادق .. كما حدث في حالة مسيلمة الكذاب والنبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم - " (إعلان أكتوبر 1907م)
وكما قدّر الله تعالى، سَقَطَ المولوي الأمرتساري في فخٍّ من اختياره. فبحسب شرطه ومعياره: مَنَحَ اللهُ - عز وجل - المولوي الأمرتساريَّ فسحةً طويلة من العمر .. فعاش أربعين عامًا بعد وفاة سيدنا أحمد؛ ليشهد بعينه آياتِ صدقِ سيدنا أحمد تتواتر، وليشهد أيضا خيبةَ آماله عن إحباط دعوة سيدنا أحمد - عليه السلام -.
لقد عاش الأمرتساري ليرى قومَه يهجرونه وينبذونه عندما حصل مسلمو الهند من علماء مكة على فتوى بكفره وارتداده جاء فيها:
"المولوي الأمرتساري رجل ضال ابتدع عقائد جديدة." (فيصلة مكة ص17)
وتصرح هذه الفتوى التي أصدرها علماء مكة ضد المولوي الأمرتساري:
"لا يجوز أن يُسأل عن علم ولا يُتَّبَع. ودليله لا يُقبَل، ولا يجوز أن يؤم الصلاة. لا شك في كفرِه وارتداده." (المرجع السابق)
لقد عاش الأمرتساري أيضا ليرى نفسه يتردى من الأرستقراطية إلى الفقر والعوز. رجل كان يظن بأنه يملك الملايين فإذا بيته يتعرض للنهب والحرق في المذابح الطائفية عند انقسام الهند وباكستان عام 1947م. (سيرت ثنائي)
وفَقَدَ ابنَه الوحيد "عطاء الله" الذي ذُبح بلا رحمة أمام عيني أبيه. ولم تفارقه آثارُ هذه المأساة بقية حياته. (مجلة "الاحتشام" بتاريخ 15/ 7/1962م) والواقع أن هذه الوقائع كان لها وقع شديد على عقله حتى إن الشخص الوحيد الذي سجل تاريخ حياته قال عن هذه الأحداث إنها: "تسببت في موته موتًا سريعًا بائسًا." (سيرت ثنائي)

الفصل الرابع

النبوءة عن القسيس عبد الله آثم

تكشف الوقائع التاريخية قبل تقسيم الهند أنه خلال الجزء الأخير من القرن التاسع عشر أخذت النصرانية تُحرز انتصارات كبيرة في شبة القارة الهندية. وتخبرنا الدلائل أن الكنيسة أعلنت بتنصير 91092 من المسلمين الهنود في عام 1851م، ولكنها في عام 1881 نجحت في تنصير 417372 نسمة.
كانت هذه الزيادة الضخمة التي سجلتها الكنيسة مصدرَ قلق بالغ للغالبية العظمى من المسلمين المخلصين الهنود .. الذين أخذوا يحضُرون لقاءات النصارى ليدافعوا عن الإسلام بقدر استطاعتهم. ولكن دفاعهم عن الإسلام كان يعوزه الكثير، اللهم إلا في حالات قليلة، ومن ثم فإن قادة الكنيسة شرعوا يتكهّنون بتحول سكان شبه القارة الهندية جميعًا إلى النصرانية.
وفي أوائل عام 1893م كتب القسيس النصراني هنري مارتن كلارك رسالة إلى محمد بخش بهاندا، أحد قادة المسلمين في مدينة "جاندياله" يقترح فيها القيامَ بعمل حاسم نحو ترتيب مناظرة علنية بين ممثلي النصرانية والإسلام .. ليتسنى اتخاذُ قرار نهائي بشأن الجدارة النسبية للمِلَّتَيْنِ، ويمكن البتُّ في أي الديانتين هي الحق.
وكان سيدنا الميرزا غلام أحمد في ذلك الوقت قد تمكَّن من إلحاق الهزيمة بكثير من تحديات النصارى للإسلام، واعترف له الجمهور بأنه بطلُ الدِّين الحق، وقد صرحت جريدة غير أحمدية "رياض الهند" تصدر في "أمرتسار" بشأن سيدنا أحمد ودفاعِه الرائع عن الإسلام قائلة: "إن حسناتِ الميرزا غلام الرائعةَ وإنجازاتِه الروحانيةَ العالية لهي أسمى من تعليقاتنا المتواضعة. إن ما قدّمه من حجج مقنعة وأدلة متألقة تأييدًا للإسلام والحق كان شهادةً قاطعةً على أنها تفوق - دون أي ظل للشك - على كتابات العلماء الأقدمين والمحدثين .. في بلاغته وطريقة تقديمه." (جريدة "رياض الهند" بتاريخ 1/ 3/1886م)
ومن ثم لم يكن مثيرًا للدهشة أن يقوم السيد محمد بخش بهاندا بتسليم دعوة القس كلارك إلى سيدنا أحمد ملتمسًا منه أن يقوم بتمثيل الإسلام في هذه المناظرة المقترحة.
ولما كان قساوسة النصرانية مشتغلين آنئذ وعلى نطاق واسع بمهاجمة الإسلام، وسيدِنا محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - نبي الإسلام، والقرآنِ الكريم كتاب الإسلام .. اعتبر سيدُنا أحمد هذه الدعوةَ فرصةً هبطت من السماء لتوطيدِ تفوُّقِ الإسلام، فبادر بالموافقة على الدعوة، وأخبر قادةَ المسلمين في "جانديالا" أنه يسرّه تمثيلَ الإسلام في المناظرة المقترحة. (رسالة بتاريخ 11/ 4/1893م)
وعيّنت الكنيسةُ "عبدَ الله آثم" - وهو هندي متنصر كان قبل تنصره خطيب جامع "آغرا" - لتمثيل النصرانية في المناظرة. وكان "آثم" هذا مصنفًا لعدد من المنشورات السافلة التي وصف فيها نبيَّ الإسلام الأكرم - صلى الله عليه وسلم - بأنه الدجال. (والعياذ بالله) (أندرونه بائيبل، للقسيس عبد الله ص133 وما بعدها)
كان الإجماع العام من المسلمين لاختيار سيدنا أحمد ممثلا للإسلام مثارَ قلق بالغ لدى القسيسين النصارى وعلى وجه الخصوص - القُسس المرتدين عن الإسلام: مثل إمام الدين وثاكر داس وعبد الله آثم. وقد عبّروا جميعًا من قبل عن قلقهم نحو التأثير المتزايد لسيدنا أحمد. (جريدة "نور أفشان" 19/ 3/1885، و16/ 4/1885م) لقد شهدوا الفناء التامَّ لفلسفة الآريا الهندوسية على يد سيدنا أحمد، وخَشُوا أن تلقَى الكنيسة نفس المصير خاصة وإن سيدنا أحمد كان أداة إذلال لزملائهم: القس هربرت ستانتون والقس فتح مسيح .. اللذين تحديا الإسلام في الماضي ثم فرّا من الميدان عندما ظهر فيه سيدنا أحمد وقَبِلَ تحديهما. (المرجع السابق 7/ 6/1888م، 9/ 6/1888م)
ولذلك رفضت قيادة الكنيسة في بادئ الأمر أن تكون طرفًا في مناظرة يمثل فيها سيدُنا أحمد الإسلامَ. ولكن وفدًا من قادة المسلمين أَكَّدَ للقسيسين النصارى بأن الميرزا غلام أحمد هو اختيارهم المفضَّل، فاضطروا للتسليم. وبعد قدر من المراسلات المتبادلة بين الفريقين وصلوا في النهاية إلى اتفاق لعقد مناظرة خطية في مدينة أمرتسار خلال المدة من 22 مايو إلى 3 يونيو 1893م. وتم الاتفاق أيضا على موضوعات المناظرة وهي: صدق الإسلام؛ وصدق نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن المجيد ودعوى ألوهية يسوع المسيح.
ومع أن الفريقين قد توصلا إلى اتفاق رسمي إلا أن قيادة الكنيسة قبِلت بتعيين سيدنا أحمد مع قدر من التحفظ. لقد حاولوا التأثير على جموع المسلمين لإعادة النظر في اختيارهم وذلك بمحاولة تشويه سمعة سيدنا أحمد. وخصوصًا أصدر القس كلارك نشرةً موجَّهة إلى المسلمين يشير فيها إلى فتاوى المولوي محمد حسين البطالوي عن الميرزا غلام أحمد، فاقترح على المسلمين أن ينبذوه، لأنه - حاشا لله - ليس مسلمًا بالمرة. (المرجع السابق 2/ 5/1893م)
فكأن المبشرين المسيحيين يحبون المسلمين العاجزين عن الدفاع عن دينهم، ويعتبرونهم "المسلمون حقا"، ويريدون إنقاذ مثل هؤلاء المسلمين من (الكفار) المجيدين في المنافحة عن سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -! فيا للسخرية المُرّة!!
وفي نهاية المطاف .. جرت المناظرة في مدينة أمرتسار حسب الاتفاق واستمرت لأسبوعين. واتضح أن ممثل النصارى في المناظرة - عبد الله آثم - كانت تنقصه المعرفة الكافية بكلا الدينين: الإسلام والنصرانية، ومن ثم فإنه وافق على نقاط عديدة في المناظرة. فمثلاً إنه اعترف أنه لم يستطع أن يدلل على ألوهية المسيح المزعومة. (جنغ مقدس (حرب مقدسة) الخزائن الروحانية ج6) وتمسك برأيه أن العقل والخبرة ينبغي أن لا يكونا مرشدَين للإيمان، وأن الإنسان لا يستطيع فهم عقيدة التثليث. (المرجع السابق)
ووجد "آثم" نفسه أيضا مضطرًّا للاعتراف بأن يسوع أصبح تجليًّا للإله فقط عندما رأى روحه تنزل عليه في هيئة حمامة وبرق. (المرجع السابق) .. مما قَوَّضَ بشدةٍ عقيدةَ أن يسوع بوصفه ابن الإله كان من جوهر الأب نفسه. وقد انكشف جهل "آثم" بالإسلام والقرآن أثناء المناظرة لما أقرَّ بخطئه في الاستشهاد بآيات عديدة من القرآن الكريم. (المرجع السابق)
عجز القسيس عبد الله آثم عن مواكبة البحث الفكري الدائر، وفشل في تقديم أية حجة طريفة ومقنعة .. لا في صالح النصرانية ولا ضد الإسلام. وكان عجزه أكثَرَ من واضح أمامَ الحاضرين بما فيهم زملاؤه. والواقع أن "آثم" نفسه كان يعرف قصوره، فتوعَّكَ أثناء المناظرة وحلَّ محلَّه القسُّ "مارتن كلارك" لفترة من الوقت. وفي نهاية المناظرة اختتم سيدنا أحمد ورقته الأخيرة بهذا الإعلان:
"عندما دعوتُ الله في خشوع وحرارة أن يصدر حكمه في هذه المناظرة .. لأننا بشر ضعفاء لا نستطيع التوصل إلى شيء .. تلقيتُ نُبوءةً تبشرني بأن الطرف الذي يتعمد اتباع الباطل ويهجر الإلهَ الحق ويؤلِّه بشرًا ضعيفًا سوف يُلقى في الهاوية خلال 15 شهرا .. شهرٌ في مقابل كل يوم من أيام المناظرة. وإذا لم يرجع إلى الحق فسوف يلقى خزيًا علنيًا. وأن من يتبع سبيل الحق ويؤمن بالإله الحق سوف يَلقى التكريمَ على الملأ." (المرجع السابق)
وفي ختام الإعلان وجّه سيدنا أحمد سؤالا إلى عبد الله آثم:
"والآن أسأل السيد المندوب: إذا تحققت هذه الآية .. فهل تقبل بها كنبوءة سماوية كاملة بحسب ما تحب؟ ألا تكون هذه الآية برهانًا ساطعًا على أن النبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم - الذي سمّيتَه الدجالَ في كتابك "أندرونه بائيبل" - هو نبي صادق"؟ (المرجع السابق)
يتبين من هذه المقدمة عن المناظرة بين سيدنا أحمد والقسيس عبد الله آثم أن الهدف من كل هذه العملية هو إقرارُ تفوُّقِ إحدى الديانتين المتنافستين: الإسلام أو النصرانية. وكان إعلان سيدنا أحمد الختامي يشير إلى أن المعركة لم تكن بين الشخصيتين المتناظرتين، بل بين ملّتيهما: الإسلام والنصرانية. وكان سؤالُ سيدنا أحمد الختاميُّ دليلا آخر على أن النتيجة النهائية للنبوءة ضد عبد الله آثم ستكون "برهانًا قويًا على أن النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - الذي سماه "آثم" دجّالاً في كتابه "أندرونه بائيبل" - كان نبيًّا من الله حقًّا وصدقًا".
يُرجى عند هذه المرحلة من معارضي الأحمدية الذين ينتقدون نبؤءاتِ سيدنا أحمد .. أن يتدبروا فيما يؤدي إليه إلحاحهم في قولهم بأن سيدنا الميرزا غلام أحمد لم يستطع التغلب على النصراني .. ومن ثم فإن المناظرة كانت في صالح النصراني .. علمًا بأن المناظرة كانت برهانًا قويًّا على صدق النبي الأكرم محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي سماه "آثم" دجالا - والعياذ بالله - في كتابه "أندرونه بائيبل".
يا تُرى ألم يغرق خصومُ سيدنا أحمد في تحيُّزهم ضد حضرته بحيث إنهم مستعدّون للتضحية بصدق نبي الإسلام لشخص يؤلِّه يسوعَ الإنسان وينسى الإلهَ الحق، ويسبّ في كتاباته علنًا نبيَّنَا الأكرمَ - صلى الله عليه وسلم -؟
حقيقة الأمر أن القس عبد الله لم يتغلب على سيدنا أحمد في هذه المناظرة، ولم تكن المناظرة في صالح النصرانية. وتفاصيل غلبة الإسلام على النصرانية مسجلة في محاضِرِ جلساتِ هذه المناظرة. (المرجع السابق) ولو أن الناقدين الطاعنين في سيدنا أحمد قرأوا هذه المحاضر، ولم يكتفوا باقتباس الأباطيل من كتابات أقرانهم الذين لا يَقِلُّون عنهم جهلا وتعصبًا .. لوجدوا أن الإسلام قد انتصر على النصرانية في هذه المناظرة على يد سيدنا أحمد ضد القس عبد الله آثم.
والواقع أن صحيفة "نور أفشان" وهي جريدة نصرانية، كانت نَشرتْ في أعمدتها عرضًا لهذه المناظرة، ثم قامت "جمعيةُ البنجاب للكتاب الديني" - وهي منظمة نصرانية في لاهور - وجمعت هذا العرض في كتاب. وفي سياق هذا العرض صرح القس ثاكر داس زميلُ عبد الله "آثم" من البعثة الأمريكية بسيالكوت .. بأن هذه المناظرة في رأيه لم تكن وافيةً بالمطلوب، وكانت إجابات المندوب النصراني موجزة جدا. (تنقيح المباحثة ص3) وقال أيضا: إن الآيات التي استدل بها "آثم" على معتقداته لم تأتِ بالتأثير المرغوب. (المرجع السابق) واعترف القس "داس" كذلك بأن "آثم" فشل في تفنيد النتائج التي استخلصها الميرزا غلام أحمد فيما يتعلق بفقرات إنجيلية معينة. (المرجع السابق) وانتقد زميلَه لأنه فشل في الإجابة على الأسئلة التي أثارها سيدنا أحمد بصدد ألوهية المسيح المزعومة.
ومنذ وقت قريب صرح كاتب بريطاني: إيان آدمسن - عن هذه المناظرة بين سيدنا أحمد والقس عبد الله آثم فقال: "لا شك فيمن فاز في هذه المناظرة. قال مبعوث أمريكي في تقريره حول المناظرة بإحدى الصحف إن أجوبة المناظر المسيحي كانت غير وافيةً.
( MIRZA GHULAM AHMAD OF QADIAN, PAGE 83)
ولنعُدْ إلى مسألة تحقُّق نبوءة سيدنا أحمد ضد عبد الله آثم. لقد أوضحنا من قبل أن الغرض من هذه النبوءة كان تحذيرَ القس النصراني من الموقف الذي اتخذه ضد الإسلام. لقد صرَّحت كلماتُ النبأ الإلهي لسيدنا أحمد بوضوح أن عبد الله آثم: "سيُلقَى في الهاوية خلال 15 شهرا من النبأ، وسوف يلقى الخزيَ العلني إذا لم يرجع إلى الحق".
ولا يوجد فيها ما يوحي بأن المطلوب هو تحوُّلُ عبد الله آثم عن النصرانية كما يدّعي بذلك النقاد. بل على العكس، كانت ملاحظة سيدنا أحمد الختامية هي أن نجاة "آثم" تتوقف على تراجعه عن معتقده السابق ضد نبي الإسلام محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعن شتمه في كتابه: أندورنه بائيبل .. وفي هذا دليل على أن المطلوب من "آثم" هو أن يعترف بصلاح نبي الإسلام الأكرم - صلى الله عليه وسلم -. ومن ثم فإن مجرد تراجع "آثم" عن موقفه السابق ضد نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - يكون دلالةً كافية على أنه قد أخذ يرجع إلى الحق. وكما أثبتت الحوادث اللاحقة .. ما كاد سيدنا الميرزا غلام أحمد يعلن نبوءته حتى تاب هذا القس فورًا، وأعلن أنه "لم يُهِنِ الإسلام أو نبيَّ الإسلام عن سبق إصرار أبدًا".
ويصرح المؤرخ البريطاني عن تراجع "آثم" فيقول: عندما سمع "آثم" بالنبوءة امتقع وجهُه، وعلى الطريقة الشرقية في بيان الإنكار التام: لَمَسَ أذنيه، وأخرج لسانه، وهَزَّ رأسه، وأعلن: تُبْت .. تبتُ. أنا لم أقصد أن أُبدي قلةَ الاحترام نحو محمد." (المرجع السابق)
لم يكتف عبد الله آثم بإعلان توبته باللسان وإبداء الندم عند المناظرة؛ بل إن هذا الكاتب النصراني الشهير والمناظر المعروف توقَّفَ عن كل عمل يساند عقيدته. امتنع عن الكتابة في صالح النصرانية وضد الإسلام، وانسحب في صمت وعزلة نسبية. وهذا في الواقع شهادة بينة على أن عبد الله آثم قد رأى نور الحق فعلا، وأنه في قرارة نفسه قَبِلَ بصدق الإسلام ونبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم -. وإلا .. فما هو السبب المعقول الذي حدا بامرئ مثل عبد الله آثم، الذي كان مشتغلا من قبل في الأنشطة النصرانية، إلى التقاعد فجأة من الحياة النشطة إلى الاعتزال؟ لماذا تخيَّرَ هذا الوقتَ بالذات ليختفي بهذه الكيفية التي لجأ إليها بعد إعلان نبوءة سيدنا أحمد ضده؟ ألم يكن "آثم" ليمضي في الدعوة إلى النصرانية لو أنه اقتنع فعلا بعقائده الباطلة .. بصرف النظر عن نبوءة سيدنا أحمد ضده؟
إن تقاعُدَ عبد الله آثم عن الحياة النشطة إلى الصمت التام بعد إعلان النبوءة ضده لدليل قاطع على أنه أدرك خطأه، وأن الحقيقة أثّرت على فكره. ولو لم يكن الحال هكذا لتجاهَلَ تحذيرَ سيدنا أحمد ضده، واستمر في عدوانه الظالم على الإسلام وعلى نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم -. ولكنه أبدى نَدَمَه قولا وعملا عند المناظرة .. وشحب لونُه وأعلن توبتَه، ثم كان في انسحابه وركونه إلى الصمت بعد المناظرة مظاهرة تكميلية لتوبته العلنية.
الواقع أن أحد خصوم سيدنا أحمد المتحمسين - المولوي الأمرتساري - اعترف أن عبد الله آثم كان خائفًا من الموت بسبب نبوءة سيدنا أحمد ضده، وأنه لجأ إلى كل وسيلة ممكنة للهرب بسبب هذا الخوف. (إلهامات الميرزا ص22)
واعترف المولوي الأمرتساري أيضا: لقد تراجع "عبد الله آثم" فعلا، وهذا كان المفهوم عمومًا. (المرجع السابق)
ومع أن عبد الله آثم تراجع عن معتقداته ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوقَّفَ عن أن يكون نصرانيًّا نشطًا إلا أنه لم يخرج عن الملة النصرانية .. وعند نهاية الـ 15 شهرًا قام خصوم سيدنا أحمد بضجة يدّعون فيها أن آثم لم يزل حيًّا .. ومن ثم فإن نبوءة سيدنا أحمد لم تتحقق.
ولكن حقيقة الأمر أن كلماتِ السماء التي نزلت على سيدنا أحمد لم تعلن في أي وقت أن الكاذب يموت في خلال 15 شهرا من إعلان النبوءة، بل إن كلمات النبأ تقرر أن الذي يتعمد اتباع الباطل، ويهجر الإله الحق، ويؤلِّه بشرًا ضعيفًا .. سوف يُلقى في الهاوية خلال 15 شهرا .. شهر في مقابل كل يوم من أيام المناظرة، وإذا لم يرجع إلى الحق لقي خزيًا علنيًا. (جنغ مقدس، الخزائن الروحانية ج6 ص210)
فكلمات النبأ الإلهي كما تلقاها سيدنا أحمد تقرر أن الكاذب سيلقى في الهاوية خلال 15 شهرا. والهاوية هي الدرك الأسفل من النار.
لاشك أن سيدنا أحمد قد فهم من هذه العبارة أنها تعني الموت كما تبين ذلك من تفسيره للوحي الإلهي الذي نزل عليه. (المرجع السابق)، ولكن هذا التفسير حالة بسيطة من الخطأ في فهم المدلول الحقيقي للوحي الإلهي .. على نحو ما حدث لسيدنا وحبيبنا محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عند تفسيره للوحي السماوي المتعلق بأداء العمرة والحج، وقد شرحناه في فصل سابق. وهو نفس الحال من خطأ الفهم الذي وقع فيه سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام عندما ظن أن وعد الله تعالى يتضمن نجاة أسرته من الفيضان. وهو نفس الحال من خطأ الفهم الذي وقع فيه سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام حين غادر بلده متوقعًا نزولَ العقاب العاجل بأهل نينوى.
ومع ذلك .. فإن نبوءة سيدنا أحمد المتعلقة بعبد الله آثم - كما بلّغها الوحي له - تحققت بتمامها. فمع أن "آثم" أبدى استجابةً شفوية في نهاية المناظرة، وتوقَّفَ عن عادته في شتم الإسلام ونبي الإسلام بالتقاعد من الحياة العاملة النشطة .. إلا أن سكوته هذا كان مجرد خداع للجماهير، ومن ثم أُلقيَ في الهاوية، وهي تجربة قاساها طوال ما بقي له من أيام على الأرض.
تدل الوقائع التاريخية على أن القس "آثم" عانى من عذاب ذهني عظيم بعد إعلان سيدنا أحمد للنبوءة ضده. وأخذتْ تنتابه هلوسةٌ غريبة، وطفق يحلم نهارًا أن الثعابين والكلاب المسعورة والرجال المسلحين توشك أن تهجم عليه. يصرح المؤرخ البريطاني أن القس آثم بعد النبوءة:
"عاش في ذُعر تام بقيةَ عمره. كان دائمًا مخمورًا، وينقله القسيسون النصارى من بلدة إلى أخرى. (سيرة الميرزا غلام أحمد القادياني ص103)
وكان المولوي الأمرتساري - الذي سبق ذكره - شاهدَ عيان لحال عبد الله آثم وحياتِه بعد إعلان نبوءة سيدنا أحمد ضد هذا القس النصراني. وبالرغم من الخلافات الشخصية ومؤامراته ضد سيدنا أحمد - فإن المولوي ثناء الله اعترف بأن نبوءة سيدنا أحمد ضد "عبد الله آثم" قد تحققت طبقًا لكلمات النبوءة .. فصرح قائلا:
"إذا أخذتَ في الاعتبار الكلماتِ التي نقلناها أيضا، وفكرتَ في الورطة التي أحاطت به .. فلن يخالجك أي شك في أنه بالفعل قد أُلقيَ في الهاوية، وأن قلبه قد تأثر شديدا بحيث يمكن أن نسميه عذاب السعير. ولكن العقاب البالغ الذي فهمناه والذي أشارت إليه كتاباتنا - أي الموت - فذلك الذي لم يأت بعد." (إلهامات الميرزا ص23)
ولكن الموت .. كما بيّنّا آنفًا .. لم يَرِدْ ذكرهُ أبدًا في كلمات النبأ السماوي الذي نزل على سيدنا أحمد. فقط قررت النبوءةُ أن "آثم" سوف يُلقَى في الهاوية .. أي الدرك الأسفل من النار. وهذا ما حدث له تمامًا.
وقد اعترف بهذه الحقيقة خصمُ سيدنا أحمد وهو المولوي ثناء الله وقال: "الحال التي كان فيها دائما تحت تأثير القلق والخوف والرعب من الموت .. كانت حقًّا هاويةً، أو الدركَ الأسفل من النار." (المرجع السابق)
ومن المؤسف أنه بالرغم من هذا الاعتراف بتحقق نبوءة سيدنا أحمد ضد القس "آثم" طبقًا لكلمات النبأ الإلهي كما تلقاه .. فإن خصوم سيدنا أحمد لم ينفكوا يدّعون أن هذه النبوءة لم تتحقق بعد، لأن "آثم" لم يمت خلال 15 شهرا. ولقد رَدَّ سيدنا أحمد على ذلك بإعلان أن إرجاء حكمِ الموت جاء بسبب توبة "آثم" وقتَ المناظرة وموقفِه فيما بعد .. مما دلّ على أن قلب عبد الله آثم قد عاد إلى الحق.
وكذلك أعلن سيدنا أحمد صراحةً أن أساس هلاك "آثم" قد وُضع، ولا يتوهَّمَنَّ أحد أن أسوأ الشدائد قد انتهت بالنسبة للقس. وصرّح أنها مسألة وقت حتى يحيق العقابُ النهائي بـ "آثم" بسبب سفاهته. (أنوار الإسلام، الخزائن الروحانية ج9 ص1 إلى 15)
وكذلك دعا سيدنا أحمد القس آثم ليحلف علانيةً ويُنكر أنه لم يكن بقلبه ميلٌ للرجوع إلى الحق خلال فترة الخمسة عشر شهرا، وأنه - كما كان قبل المناظرة - لا يزال يعتبر الإسلام ونبي الإسلام على خطأ .. محذّرًا إياه أنه لو قام بهذا الحلف فلا بد أن يهلك خلال عام واحد من وقت الحلف .. وإلا دَفَعَ سيدنا أحمد للقس النصراني 1000 روبية هندية كجائزة له اعترافًا منه بالهزيمة.
واختتمت الدعوةُ والتحذير بإعلان من سيدنا أحمد جاء فيه أنه إذا قَبِلَ "آثم" هذا التحدي وأقسم .. فإن الإسلام سوف يخرج منتصرًا والنصرانية مهزومةً ولسوف تتجلى يدُ الله تعالى. (المرجع السابق)
فلو لم يكن عبد الله آثم قد تاب إلى الحق وتخلى عن رأيه ضد الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - كما كان قبل النبوءة .. لتَقَبَّلَ هذا التحدي وأقدم على الحلف، ولكان له بعد ذلك - إذا كُتبت له الحياة - أن يقبض جائزة قدرها 1000 روبية، ولأسدى للنصرانية خدمة جليلة؛ لأن سيدنا أحمد سيكون عندئذ مضطرا للاعتراف بهزيمة الإسلام .. وهي الملة التي كان حضرتُه ممثلا لها ومتحدثًا باسمها في المناظرة.
ولكن "آثم" لزم الصمتَ التام، وتجاهَلَ التحدّيَيْن الصادرين في 5 و9 سبتمبر عام 1894 من قِبل سيدنا أحمد - عليه السلام -. وبعد ذلك أرسل سيدُنا أحمد رسالةً مسجلة إلى القس كلارك والقس إمام الدين .. يطلب منهما حثَّ زميلهما القس "آثم" على الحلف. ولكن القس كلارك أرسل ردًّا قال فيه إن آثم ليس مستعدا للحلف. وهنا رفع سيدنا أحمد قيمةَ الجائزة إلى 2000 روبية هندية.
وفي عرضٍ قدَّمه يوم 20/ 9/1894م أعلن سيدنا أحمد أن هذه حرب بين اثنين: إله صادق وإله زائف، ولسوف يفوز الإله الحق. وصرح أيضا بأن آيةَ صدقه؛ صدقِ إله أحمد؛ صدقِ إله الإسلام هي أن- سيدنا أحمد - نفسه لن يموت في ذلك العام الذي صدرت فيه النبوءة، أما آثم فإنه لو أقسم فلسوف يموت خلال هذا العام .. لأن الإله الزائف الذي يؤلِّهه لا يستطيع إنقاذَه. (مجموعة الإعلانات ج2 ص63، إعلان رقم 122)
كانت هذه دعوى خطيرة للغاية من جانب سيدنا أحمد .. لأنه لا يستطيع أي امرئ أن يتنبأ مؤكِّدًا استمرارَ حياته لأي فترة زمنية، بل ولا للحظة واحدة .. ولكن سيدنا أحمد كان على ثقة تامة لا حدود لها في رب الإسلام. وكان على يقين من أنه تعالى سوف يؤيده وينصره في كل سبيل لإثبات صدق دينه الحق، لأن كتاب الله الكريم ورسوله العظيم محمدًا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كانا هما موضوع النزاع في مناظرة أمرتسار.
ومن ثم وجد القس "آثم" نفسه في موقف شديد الحرج. فإنه إذا ظل صامتًا أطوَلَ من ذلك فَقَدَ ما تبقى له من احترام قليل، هذا إذا كان ثمة شيء تبقى له. ولكنه كان واثقا أنه إذا أقدم على الحلف فلن يعيش سنة أخرى. ولذلك اتخذ القس النصراني خطةً يتجنب بها الموضوعَ الأساسي وهو الحلف، فأعلن فقط أنه لا يزال نصرانيًّا. (جريدة "نور أفشان" ليوم 21/ 7/1894م).
لما فشل "آثم" في أن يجيب جوابًا شافيًا على طلب سيدنا أحمد، دعاه حضرته ليقسم علنًا بأنه خلال الخمسة عشر شهرًا التالية للمناظرة لم يغيِّر موقفه تجاه الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم -. وعند هذه النقطة استفسر سيدنا أحمد عن سبب نكوص آثم عن الحلف وتساءل: ألا يستطيع إلهُ النصرانية الزائفُ أن يُنقذ "آثم" لمدة عام واحد .. على الرغم من أن "آثم" لم يتقدم كثيرا في العمر؟ إنه أكبر مني ببضعة أعوام فحسب. ما هذا العجز الذي يستولي على إله خيالي فلا يستطيع إنقاذه لمدة سنة واحدة؟ إن توقُّعَ الخلاص على يد مثل هذا الإله الذي لا يقدر على كفالة الأمان لسنة واحدة .. لأمرٌ بالغُ الخطورة. ألم نعلن بأن إلهنا سوف يحمينا من الموت هذا العامَ، وأنه سوف يُهلك آثم؟ ذلك لأن إلهنا إله حق .. ومع ذلك ينكره هؤلاء النصارى التعساء الذين يؤلِّهون بشرًا مثلهم. (مجموعة الإعلانات ج2 ص63)
وتشجيعًا للقس عبد الله آثم على أداء القسم رَفَعَ سيدنا أحمد قيمةَ الجائزة إلى 3000 روبية. وعند تقديم هذا العرض يوم 5/ 10/1894م استثار سيدنا أحمد عواطفَ آثم الدينية وقال:
"إذا كان للمسيح بن مريم الصديقة ذرةٌ من الاحترام في نظرك .. فإني ألتمسك باسمه، وأناشدك باسم الله تعالى أن تؤدي القسمَ الذي تحديناك أن تقوم به في هذه الوريقة." (المرجع السابق ص89)
ولكن "آثم" تجنبَ الموضوعَ مرة أخرى وأعلن أنه ليس مسموحًا له أن يحلف على شيء إلا في إجرءات قضائية .. لأن دينه لا يبيح له القسمَ في أي مناسبة أخرى. (جريدة "نور أفشان" 10/ 10/1894م)
وأجاب سيدنا أحمد على هذه المراوغة، وصحّح للقس آثم رأيَه بأن "دينه لا يسمح له بالحلف إلا في إجراءات قضائية"، مستشهِدًا بأسفار النصرانية وكُتبها الأخرى التي تثبت أنه لا يوجد في النصرانية أبدًا ما يمنعه من الحلف أمام جمعٍ من الناس. ثم هل هناك أية قضية هي أهم من الدين؟ وفي هذه المرة يوم 27/ 10/1894م رَفَعَ سيدنا أحمد قيمةَ الجائزة إلى 4000 روبية إذا حلف "آثم" على الإعلان المطلوب. ولكن آثم لم يكن ليقبل بالإغراء. لم يكن "آثم" ليحلف كما تحداه سيدنا أحمد .. لا من أجل اعتبارات مالية لمبلغ 4000 روبية، ولا من أجل شرف المسيح بن مريم. (أنوار الإسلام، الخزائن الروحانية ج9 ص10)
بعد 12 شهرًا من تحدي سيدنا أحمد للقس "آثم" ليحلف بأنه لم يغير موقفه من الإسلام .. أخذت وسائل الإعلام النصرانية مرة أخرى تثير مسألة بقاء "آثم" حيًّا رغم أن القس نفسه قد تَراجَعَ عن الحلف بناءً على زعم باطل منه أن دينه لا يسمح بمثل هذا التصرف.
وفي ديسمبر 1895م سرَّب القس "آثم"- عن طريق زميله القس فتح مسيح - أنه لم يُقدِم على الحلف لأن أتباع سيدنا أحمد حفنة قليلة من الناس. وعلى الفور طلب سيدُنا أحمد من "آثم" أن يخبره عن عدد المسلمين الموقعين الذين يرضى "آثم" بهم كي يوقِّعوا على التماس يقدَّم إليه من قِبله أي سيدنا أحمد - عليه السلام -.
وفي هذا الإعلان صرح سيدنا أحمد أخيرًا أنه لو اجتمع القساوسة النصارى جميعًا لإغراء "آثم" على القسم فإنه سيبقى فاقدَ الشجاعة للحلف .. لأنه في قرارة قلبه يعلم أن النبوءة الأصلية ضده في أمرتسار قد تحققت بالفعل.
وصرح سيدنا أحمد أيضا أنه لدليلٌ كافٍ على صدقه في قوله إن "آثم" لن يحلف أبدًا ضده .. حتى ولو مزّقه العالَمُ النصراني إربًا إربًا. ومن ناحية أخرى .. لو أقدم "آثم" على الحلف فإن النبوءة الثانية عن هلاكه سوف تتحقق حتمًا. (مجموعة الإعلانات ج2 ص204، إعلان 30/ 12/1894)
وكما توقع سيدنا أحمد .. لم يجسر عبد الله آثم على القسم رغم ما تعرّض له من تحقير مستمر حسبما وعد الله به. ولكن صمت "آثم" كان في حد ذاته نوعًا من الخداع .. إذ كانت أمامه فرصةٌ كافية لينقذ نفسَه من غضب الله تعالى بقول الحق، ولكنه ظل صامتا متسترا وراء تظاهُرٍ ديني كاذب رغم حثّ متكرر من قِبل سيدنا أحمد - عليه السلام - بعد هذا الإعلان أيضا. ومن ثَمَّ .. وبعد سبعة أشهر من تحذير سيدنا أحمد الأخير الذي بلَّغه لهذا القس النصراني في 30 ديسمبر 1895، نُشِرَ نعيُه في 27 يوليو 1896م، تمامًا كما أعلنه سيدنا أحمد في إعلانه الرابع بأن الله تعالى لن يترك مجرما كهذا بدون عقاب، لأنه يخفي الحق ليخدع الدنيا .... إن تلك الأيام لقريبة، وليست ببعيدة. (المرجع السابق ص 106، إعلان 27/ 10/1894م)

الفصل الخامس

د. عبد الحكيم البطالوي ونبوءاته

بدأ سيدنا الميرزا غلام أحمد القادياني - عليه السلام - في عام 1905م - أي قبل وفاته بثلاثة أعوام - يتلقى أنباء عن أجله الذي اقترب. ففي أحد إلهاماته في ربيع 1905 أخبره الله تعالى: "قَرُبَ أجلُك المقدر" (البراهين الأحمدية جزء 5، الخزائن الروحانية ج21 ص90).
وبعدها بقليل في خريف نفس العام، رأى سيدنا أحمد أن الله تعالى يخبره بأنه "ما بقي إلا القليل من الأجل المقدر" (جريدة "الحَكَم" ج9 عدد 39 ليوم 24/ 10/1905م).
وبعده بشهر واحد رأى أن الموت قد اقترب، ولكنه ابتهل أن يُعطى فسحةً كي ينجز بعض المهام المطلوبة منه (نفس المرجع عدد 41 ليوم 24/ 11/1905م).
وتكررت هذه الظاهرة دون توقف خلال ما تبقى من العام، ومنها هذه الإلهامات:
"قَرُبَ أجلُك المقدر .. ولا نُبقي لك من المُخزياتِ ذكرًا. قَلَّ ميعادُ ربك .. ولا نبقي لك من المخزيات شيئًا. تموت وأنا راضٍ منك. جاء وقتك .. ونبقي لك الآياتِ باهراتٍ .. جاء وقتك .. ونبقي لك الآيات بيناتٍ. قرُب ما توعدون" (نفس المرجع عدد 42 ليوم 30/ 11/1905م وعدد 43 ليوم ... 10/ 12/1905م. ومكتوبات أحمدية جزء خامس ص61 و62).
وفي شهر ديسمبر تلقى مع هذه الإلهامات بشارة جاء فيها:
"قال ربك إنه نازلٌ من السماء ما يرضيك رحمةً منا .. وكان أمرًا مقضيًّا. قرُب ما توعدون" (جريدة "الحكم"، عدد 44 ليوم 24/ 10/1905م)
وقد كان تواتُرُ هذه الأنباء عن قرب وفاته فرصةً كي يكتب الوصية الأخيرة فقال:
" الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمدٍ وآله وأصحابه أجمعين.
أما بعد .. فبما أن الله - عز وجل - قد أخبرني بوحيه المتواتر أنّ موعد وفاتي قد دنا، وقد تواتر هذا الوحي إلى درجة هزّت أصول كياني وفَتَرتْ فيّ الحياةُ، لذلك رأيتُ من المناسب أن أسجل بعض النصائح لأحبتي وكذلك لجميع الراغبين في الاستفادة من كلامي." (الوصية، الخزائن الروحانية ج20 ص301).
وهذه الوصية التي تعجّلها سيدنا أحمد - عليه السلام - تتضمن إلهاماتٍ أخرى عديدة تفضل الله بها عليه .. تفيد أن أجله يقترب، وأنه لم يبق إلا أيام قليلة جدًا قبل حلول يومٍ يستولي فيه اليأس على الجميع (نفس المرجع ص302).
وكتب فيها أيضا أنه رأى ملاكا يقيس الأرض ويصل إلى موضع قبره المعين له (نفس المرجع ص316).
وبينما كان أصحاب سيدنا أحمد يفزعون من اليوم المحتوم الذي يرحل فيه سيدُهم من صحبتهم .. كان كثير من خصومه يترقبون النتيجة النهائية لهذه الإلهامات، مستعدين لاستغلال الموضوع لمصلحتهم. ومن بين هؤلاء طبيب من بلدة "بَطالا" اسمه الدكتور عبد الحكيم .. وكان مطرودًا من الجماعة الإسلامية الأحمدية بسبب اعتناقه معتقداتٍ شاذّةً منحرفةً.
وكان د. عبد الحكيم بطبيعة الحال ناقمًا لطرده، ولكنه عجز عن الانتقام للمهانة التي لقيها بسبب هذا الفصل. فاتخذ موقفًا شديدَ العداء نحو الجماعة الإسلامية الأحمدية، وتبعًا لذلك أخذ يكتب ضد سيدنا أحمد. وفي إحدى المرات هدد بأنه سيمحو من كُتبه كل ما كتبه قبل طرده من ثناءٍ على سيدنا أحمد. ولما ضاق بموقف الجماعة الإسلامية الأحمدية المتّسم باللامبالاة .. مضى في مسلكه حتى بلغ به الأمر إلى ادعاء الوحي الإلهي. وبعدها بقليل ادعى النبوة، مؤكدًا أنه قيل له في أحد الإلهامات التي تلقاها "إنك لمن المرسلين".
واعتبر د. عبد الحكيم الأنباءَ المتواترة المتعلقة بقرب وفاة سيدنا أحمد فرصةً ذهبية يستغلها ليتنبأ بدوره عن وفاة سيدنا أحمد في نفس الوقت. وأوهم الجمهورَ البريء الذي أراد تضليله وخداعه .. أن نبوءاتِه عن وفاة سيدنا أحمد هي فعلا أنباء إلهامية. في الثاني عشر من يوليو عام 1906 بعد حوالي ستة أشهر من نشر سيدنا أحمد الوصية دعا حضرتُه أبناءَ الجماعة الإسلامية الأحمدية في كلمات لا يعوزها التأكيد أن يعدّوا أنفسهم للحدث المحتوم. فأخذ عبد الحكيم البطالوي إشارةَ الانطلاق من إلهامات سيدنا أحمد المنشورة هذه .. وأعلن أنه أوحي إليه أن الميرزا غلام أحمد سيلقى الموتَ خلال ثلاثة أعوام من تاريخ هذه النبوءة (الحق وإتمام الحجة ص4).
الواقع أن ما تنبأ به الطبيب فيما يتعلق بوفاة سيدنا أحمد لم يكن إلهامًا جديدًا، بل على العكس .. كان يردد ببساطة ما سبق الوحي به من الله تعالى لسيدنا أحمد .. ليس مرة واحدة، وإنما في مناسبات عديدة كما أشرنا سابقًا. والحقيقة أنه قبل إشاعة نبوءة عبد الحكيم الأولى عن وفاة سيدنا أحمد .. أعلن حضرته بنفسه مراتٍ كثيرةً أن موته قد اقترب. فمثلا: صرح سيدنا أحمد زمن نشر وصيته - ديسمبر 1905م - على صفحات مجلة نقد الأديان:
"قبل عدة أيام رأيت في المنام أن شخصًا أعطاني بعض الماء في إناء من الفخار لم يتبق فيه إلا رشفتان أو ثلاث رشفات من الماء. كان الماء شديد الصفاء والنقاء، وصَحِبَ ذلك إلهام يقول: "ماء الحياة" (مجلة "نقد الأديان" عدد ديسمبر 1905م).
وردًّا على نبوءة د. عبد الحكيم .. أكد سيدنا أحمد لعبد الحكيم أن الله تعالى لن يسمح أبدًا لمختلق الأكاذيب أن يغلب بكذبه. وصرّح بأن المقبولين من الله يحملون آياتِ قبولهم. إنهم معروفون بأنهم أمراء السلام. لا يستطيع أحد أن يتغلب عليهم. ثم حذر حضرتُه د. عبدَ الحكيم من أن سُيوف الملائكة مسلولة أمامه. وفي نهاية إعلانه ابتهل سيدنا أحمد إلى ربه أن "رب فرِّقْ بين صادق وكاذب. أنت ترى كل مصلح وصادق" (مجموعة الإعلانات ج3 ص559).
وكما هو مألوف في تجارب المؤمنين .. يعمل الله تعالى عمله بطرق متنوعة، ولا تصل حكمةُ أحد إلى معرفة الفخ الذي يوقع الله به الظالمين. لقد دفع قدرُ الله د. عبد الحكيم البطالوي أولاً ليُنقص من نبوءته الملفقة عن موت سيدنا أحمد بقدر عشرة أشهر وأحد عشر يوما، فأعلن عبد الحكيم أن الله قدَّر إنقاص أجل الميرزا غلام أحمد الذي كان مقررا في 7 يوليو 1909م مدة عشرة شهور وأحد عشر يوما، وأنه أوحي إليه الآن في 1/ 7/1907م أن الميرزا غلام أحمد سوف يموت في غضون 14 شهرًا من هذا التاريخ (الحق وإتمام الحجة ص6).
وجوابًا على هذا النبأ المعدَّل .. فإن الله واهب الحياة .. وجّه سيدَنا أحمد ليخبر عدوه بأن الله سيحفظه، بل وسيمد أيام سيدنا أحمد ويدحض نبوءة أعدائه الذين تنبؤوا بوفاته في موعد حدّدوه (إعلان 5/ 11/1907م - والتذكرة (مجموعة إلهامات الميرزا غلام أحمد)، الطبعة الإنجليزية 1976م، الناشر مسجد لندن، ص404).
إن الله تعالى هو واهب الحياة، وهو الرحمن الرحيم .. يقدِر إن شاء أن يمدَّ في حياة خلقه ولا يملك أحد تقييد قدرته .. وإذا قُرِئَ وعدُه تعالى بإطالة حياة سيدنا أحمد .. مرتبطًا بقوله "أعداؤه الذين تنبؤوا بوفاته في موعد حدّدوه" .. فإن ذلك يدل بوضوح على أن الغرض الصريح من هذا الوعد بإطالة الأجل إنما هو دحضٌ لِقول أعداء سيدنا أحمد.
كانت نبوءة د. عبد الحكيم ضد سيدنا أحمد نسخة حرفية من نبوءة سيدنا أحمد نفسه عن موته الوشيك خلال سنتين أو ثلاثة من ديسمبر عام 1905. ولا حاجة بنا للقول إن د. عبد الحكيم كان مقتنعًا بصدق إلهامات سيدنا أحمد، ولذلك لا غرابة في أنه أخذ الإشارة - ليذيع نبوءته الملفَّقةَ ضد سيدنا أحمد - من إلهامات حضرته التي سبقت إشاعتها بين الناس في مناسبات عديدة.
ومن ثَمّ كان على د. عبد الحكيم أن يكف عن تظاهره بأن تنبؤاته المنتحلة كانت نبوءات أوحيت له - كما أراد أن يوهم الجماهيرَ الساذجة بذلك. ومن الواضح أن الحكمة الإلهية ارتأت أن تُعطي عبدَ الحكيم فرصةً ليُصدِر نبأ مستقلا وأكثر تحديدا. وبالفعل تأثر د. عبد الحكيم بإعلان سيدنا أحمد القائل "ليدحض نبوءة أعدائه وأن الله سوف يمدُّ في أيام حياته" .. فألغى نبأه المعدَّل عن موت سيدنا أحمد في غصون 14 شهرًا من يوليو 1907م - أي ما قبل سبتمبر 1908م - وأصدر نبوءةً جديدة صرّح فيها أنه بحسب آخر ما تلقاه من إلهام يوم 12 فبراير 1908م يموت الميرزا أحمد قبل اليوم الواحد والعشرين من شهر ساون 1965 بحسب التقويم الهندي - أي قبل 4 أغسطس 1908م (الحق وإتمام الحجة ص26).
ومع أن هذه النبوءة لا تزال داخلة في حدود نبوءة سيدنا أحمد نفسه عن وفاته الوشيكة .. إلا أن سيدنا أحمد كان واثقًا من أن الله تعالى سوف يطيل أيامه إذا كان ذلك لازمًا ليُثبت خطأَ أعدائه. ولذلك أعلن سيدنا أحمد مرة أخرى ردًّا على نبوءة د. عبد الحكيم الثالثة في سلسلة نبوءاته المعدَّلة .. وقال إن الله سوف يحميه من كل تنبؤات الدكتور (جشمه معرفة (ينبوع المعرفة)، الخزائن الروحانية ج23 ... ص337).
وهكذا جرت المقادير. أصبح عبد الحكيم متغيظًا من موقف سيدنا أحمد اللامبالي، وتجاهُلِ الجماعة الإسلامية الأحمدية لنوبات غضب ذلك المرتد. ففي انفجاراته الغاضبة المعتادة صرح قائلا إنه بالرغم من نبوءاته لم يزل الميرزا أحمد بلا خوف، وظلت ثقته بلا نقص، وزادت قوة الأحمديين فوق كل الحدود. وفي إحدى حالات قنوطه دعا د. عبد الحكيم رَبَّه ليعجل بهلاك سيدنا أحمد. ونتيجة لذلك أعلن أن الله قد أبطل نبوءته عن موت الميرزا غلام أحمد ما قبل 4/ 8/1908م (الحق وإتمام الحجة ص9).
كان د. عبد الحكيم مشدودًا إلى داخل الفخ الذي نصبه الله تعالى ليوقع فيه أعداءَ سيدنا أحمد ويخزيهم .. فأصدر عبد الحكيم البطالوي نبوءته التالية بصدد موت سيدنا أحمد. أرسل خطابًا مؤرخًا 8/ 5/1908م إلى محرري الدوريات الهندية: "بيسه أخبار" في لاهور و"أهل الحديث" في أمرتسار صرح فيه:
أكون شاكرًا لو نشرتم إلهاماتي الأخيرة التالية المتعلقة بموت الميرزا:
1. سوف يموت هذا الميرزا بمرض مهلك يوم 21 من ساون عام 1965 (بحسب التقويم الهندي) أي 4 أغسطس 1908م ..
2. سوف تموت معه أيضا امرأة مهمة من أسرته (جريدة "بيسه أخبار" وجريدة "أهل الحديث" ليوم 15/ 5/1908م).
كانت هذه النبوءة النهائية التي ذكر فيها د. عبد الحكيم تاريخًا محدّدًا لوفاة سيدنا أحمد شبكةَ صيدٍ منسوجة بأصابع تجديف عبد الحكيم وزورِه. والحمد لله تعالى الذي يُربك أعداء الحق ويوقعهم في فخاخ من صنع أيديهم. يمكن الآن لسيدنا أحمد أن يُنهي مقامه في هذه الدنيا الزائلة .. موفور الكرامة .. في الموعد الذي أنبأه به الله تعالى، وكما نشره سيدنا أحمد نفسه في ديسمبر 1905م في كتابه "الوصية" (مجلة "نقد الأديان" ديسمبر 1905م).
الآن .. تنبأ د. عبد الحكيم البطالوي بتاريخ محدد لموت سيدنا أحمد، ومن ثم يتضح أنه لا حاجة هناك ليطيل الله تعالى أجلَ سيدنا أحمد كما وعد لإخزاء أعدائه .. لأن الموعد الذي حدده لموت نبيه مختلف تمامًا عن الموعد الذي عينه عبد الحكيم في نبوءته المزيفة أي 4/ 8/1908م. وهذا بنفسه خزيٌ كافٍ للأعداء .. لأن الأحداث التي وقعت أثبتت أن عبد الحكيم كان كذابًا ملفِّقًا.
تُوفي سيدنا أحمد يوم 26/ 5/1908م أي قبل اليوم الذي حدده د. عبد الحكيم في نبوءته الأخيرة بأكثر من شهرين. ورغم ذلك وجد اليوم بعضُ المعادين لسيدنا أحمد في أنفسهم الصفاقة ليؤكدوا بأن عبد الحكيم قد انتصر بنبوءاته الباطلة ضد سيدنا أحمد‍‍‍!
ومع ذلك فإنه أثناء الخصومة بين سيدنا أحمد وعبد الحكيم البطالوي .. لم يكن معارضو سيدنا أحمد جائرين ومتحيزين بقدر المعارضين الشانئين في يومنا وعصرنا هذا .. لم يكونوا جميعًا كذلك على الأقل. ولذلك نعى محرر جريدة "بيسه أخبار" اللاهورية على د. عبد الحكيم لجوءَه إلى تغيير نبوءاته السابقة عن موت سيدنا أحمد في مدى 14 شهرا بدايةً من 1/ 7/1907م، ليجعله موعدًا آخر محدّدًا وهو يوم 21 من ساون عام 1965 بحسب التقويم الهندي، الموافق 4/ 8/1908. وقالت: لو ظل عبد الحكيم على نبوءته السابقة لأثبت صدقَه، وهَدَمَ مصداقيةَ الميرزا هدمًا لا صلاح له.
وشارك جريدةَ "بيسه أخبار" في رأيها هذا كثيرٌ من خصوم سيدنا أحمد .. بما فيهم المولوي "ثناء الله" الأمرتساري أيضا. وكان "ثناء الله" خصمًا لَدودًا لسيدنا أحمد، لم يَدَعْ فرصةً لشتم سيدنا أحمد تفوته، واستغلَّ كلَّ مناسبة أو موضوعٍ ضد سيدنا أحمد القادياني، ومع ذلك كله، تحسَّرَ المولوي "ثناء الله" الأمرتساري على العكس من خصوم سيدنا أحمد الحاليين والمعاصرين .. لأن د. عبد الحكيم البطالوي ثبت كذّابًا ومزوِّرًا. وبعد وفاة سيدنا أحمد أشار المولوي "ثناء الله" إلى نبوءات د. عبد الحكيم بصدد هذه الوفاة فقال:
"يا حسرتاه! نكتب هذه الأسطر بأعظم أسف وألم في القلب. ولكن ماذا يستطيع المرء فِعْلَه إذا وجب الاعتراف بالحق؟ كنا حقًّا مهتمين عندما رأينا الميرزا ينشر وصيته التي صرح فيها بأنه أُلْهِمَ بدنوِّ أجله. وسرعان ما أحسَّ بعضُ الناس بالراحة لأن شخصًا معينًا أوشك أن يغادر الدنيا. نحن لم نرد أن يحدث ذلك بهذه السرعة، آملين أن يَدَعَه الله متخبطًا في عدوانه، ولكننا توقعنا أن يحدث ذلك بسرعة كما أعلن د. عبد الحكيم البطالوي. لقد صرح الدكتور قائلا: إن إلهامي بشأن الميرزا القادياني .. الذي أرجو نشره هو: سوف يموت الميرزا يوم الحادي والعشرين من ساون عام 1965 (بحسب التقويم الهندي) الموافق 4 أغسطس 1908م مِن مرض مهلك. وسوف تموت معه امرأة بارزة من أسرة الميرزا (جريدة "أهل الحديث" 15/ 5/1908م).
ومع ذلك لا نستطيع الامتناع عن قول ما هو حق. فلو أن الدكتور توقَّفَ لدى ما أعلنه من قبل .. أي عند نبوءاته بموت الميرزا في غضون 14 شهرًا، ولم يحدِّد تاريخًا معينًا كما فعل .. ما نهضتْ هذه الاعتراضات أبدًا كما أثارتها جريدة "بيسه أخبار" يوم 27 حين قالت: لو أن النبوءة تُركت كما كانت (حتى 21ساون) لكان شيئًا عجيبًا. ولكن للأسف، لقد سبق أن نشرتْ جريدة "أهل الحديث" في عدد 15/ 5/1908م إلهامَ عبد الحكيم يقول بموت الميرزا يوم 21 من ساون الموافق 4 أغسطس. كنا نتمنى لو أنه ترك نبوءاتِه السابقة دون تغييرٍ وتحديدٍ لموعد معين .. فعندئذ ما كان هناك أي عذر .. " (المرجع السابق 12/ 6/1908م)

الفصل السادس

النبوءة المتعلقة بسيدنا "المصلح الموعود"

في عام 1886 سافر سيدنا الميرزا غلام أحمد من قاديان إلى مدينة هوشيار بور، ومكث هناك عاكفًا على العبادة لأربعين يوما في بيت أحد الأصدقاء، فبشره الله تعالى أثناء الاعتكاف بآيةِ رحمةٍ منه أعلن تفصيلَها يوم 20 فبراير 1886 .. فقال حضرته - عليه السلام - ما تعريبه:
"إن الله الرحيم الكريم الكبير المتعالِ القدير على كل شيء قد خاطبني في إلهامه وقال: "إني أعطيك آيةَ رحمةٍ بحسب ما سألتني. فقد سمعتُ تضرعاتِك، وشرّفت أدعيتَك بالقبول بخالص رحمتي، وباركتُ رحلتَك هذه. فآيةُ قدرةٍ ورحمةٍ وقربةٍ ستوهب لك. آيةُ فضل وإحسان ستُمنح لك، ومفاتيح فتح وظفر ستعطى لك. سلام عليك يا مظفر. هكذا يقول الله تعالى، لكي ينجوَ مِن براثن الموت مَن يبتغي الحياة، ويُبعثَ مِن القبور أهلُها، وليتجلَّى شرفُ الإسلام وعظمة كلام الله للناس، وليأتيَ الحق بكل بركاته، ويزهقَ الباطل بجميع نحوساته، وليعلمَ الناسُ أني أنا القادر .. أفعل ما أشاء، وليوقنوا أني معك، وليَرى آيةً بينةً مَن لا يؤمن بالله تعالى، وينظرُ إلى الله ودينِه وكتابه ورسولِه الطاهر محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - نظرةَ رفضٍ وتكذيبٍ، ولتستبينَ سبيل المجرمين.
أَبْشِرْ فستعطى ولدًا وجيهًا طاهرًا. ستوهب غلامًا زكيًا من صلبك وذريتك ونسلك. غلام جميل طاهر سينزل كضيف عندك. اسمه عنموائيل وبشير. لقد أوتي روحًا مقدسة، وهو مطهَّر من كلِّ رجس. هو نور الله. مبارك الذي يأتي من السماء، والفضل ينزل بنزوله. سيكون صاحب الجلال والعظمة والثراء. سيأتي إلى الدنيا ويشفي الكثيرَ من أمراضهم بنَفَسه المسيحي وببركة روح الحق. إنه كلمة الله، لأن رحمة الله وغيرته قد أرسلته بكلمة التمجيد. سيكون ذهينًا وفهيمًا بشكل خارق وحليمَ القلب. سوف يُملأُ بالعلوم الظاهرة والباطنة. إنه سيجعل الثلاثة أربعة (لم يتضح لي معنى هذا). إنه يوم الاثنين، مبارك يوم الاثنين. نَجْلٌ بهجة القلب كريم نبيل، مَظهر الأول والآخِر، مَظهر الحق والعلا، كأن الله نزل من السماء. ظهوره جدُّ مبارك ومدعاة لظهوره جلال الله تعالى. بشرى لك، يأتيك نور مسحَه الله بطيب رضوانه. سوف ننفخ فيه روحنا، وسيُظلّه الله بظلّه. سوف ينمو سريعًا، وسيكون وسيلةً لفكِّ رقاب الأسارى، وسيذيع صيتُه إلى أرجاء الأرض، وسيتبارَك منه أقوام، ثم يُرفع إلى نقطته النفسية .. السماء. وكان أمرًا مقضيًّا" (مجموعة الإعلانات ج1 ص97، وجريدة "رياض الهند" (تكملة) واحد مارس 1886م أمرتسار).
تشير هذه النبوءة العظيمة إلى مولد ابن يكون "المصلح الموعود" لهذا العصر. ولكن كما يظهر من نص الإلهام فإن النبوءة تبشر بمولد ولدين اثنين وليس بواحد. ولقد أوضحها سيدنا أحمد معلنًا:
"إن الكلمات التي بدايتها "غلام جميل طاهر"؛ ونهايتها "ينزل كضيف عندك" تعني حياة قصيرة .. لأن الضيف هو من يمكث لبضعة أيام ثم يرحل أمام عين الإنسان. والجملة التي تلي ذلك تشير إلى "المصلح الموعود" الذي اسمه "فضل" أيضًا في الإلهام (المرجع السابق ص183، الإعلان الأخضر، 1/ 12/ 1888م).
وفي ورقة أخرى صدرت من قاديان صرح سيدنا أحمد أن في إعلان 20 فبراير 1886 نبوءةً عن ميلاد ولد صالح يتميز بالصفات الواردة في الإعلان. ثم كتب حضرته:
"إلى هذا الوقت - 22 مارس 1886 - لم يولد ولد في بيتي؛ عدا وَلَدَيَّ اللذينِ وُلدا من قبل، وسنُّهما اليوم أكثر من 20 أو 22 من السنوات. ولكننا نعلم أن مثل هذا الابن سوف يولد بكل تأكيد في غضون تسع سنوات مصداقًا لوعد الله تعالى- عاجلا أو آجلا - على أي حال سوف يولد في خلال هذه المدة." (المرجع السابق ص113، إعلان 22 مارس 1886)
في 15/ 4/1886 رُزق سيدنا أحمد بطفلة اسمها "عصمت". فكان ميلادها فرصة ليزعم خصومه أن نبوءته عن ولادة صبي قد ثبت بطلانها .. هذا على الرغم من أن الحكمة الربانية قد كفلت خُلُوَّ النبأ من أي غموض. ويتأكد هذا من أن الله تعالى قبل مولد "عصمت" بثلاثة أسابيع جعل سيدَنا أحمد يعلن أن ولادة "المصلح الموعود" سوف تتم في مدى 9 سنوات من تاريخ الإعلان (المرجع السابق).
وقبل ولادة "عصمت" بأسبوع أعلن سيدنا أحمد:
"بعد إعلان 22 مارس 1886 ابتهلتُ إلى الله تعالى مرة أخرى ليكشف لي مزيدًا عن هذا الأمر؛ وقد بيَّنه لي اليوم: 8 أبريل 1886. أخبرني الله تعالى أن غلاما سيولد لي قريبًا جدًّا في مدى فترة حمل واحدة. وهذا يعني أن ابنا سوف يولد لي من حمل قريب؛ ولكن لم يُكشف لي ما إذا كان الوليد القادم هو الابن الموعود أم أنه سيولد في وقت آخر خلال مدة السنوات التسع" (المرجع السابق ص116، 117، إعلان يوم 18 أبريل 1886).
ويحمل هذا الإعلان نفسه رسالةً واضحة بأن الابن الموعود ليس من الحمل الحالي. ويتأكد هذا المعنى بعبارة أن ابنا سيولد من حمل قريب وليس من الحمل الحالي.
وفي يوم 7/ 8/1887 تحققت نبوءة سيدنا أحمد عن مولد غلام وجيه طاهر عنموائيل وبشير، ينزل من السماء كضيف .. عندما ظهر إلى الوجود ابنٌ لسيدنا أحمد، أعلن حضرته أن هذا المولود يحقق نبوءةَ 20/ 2/1886 التي تتحدث عن غلام وجيه وطاهر يأتي كضيف. وصرح حضرته أيضا أن مولد هذا الابن حقق النبوءة التي جاءت في إعلان 8/ 4/1886 عن طفل يولد قريبًا (المرجع السابق).
ولكن هذا الولد الذي سمِّي بشير أحمد؛ واشتهر باسم بشير الأول، كان ضيفًا فقط بحسب ما قررته النبوءة (إعلان 20/ 2/1886)، وما أعلنه سيدنا أحمد - عليه السلام - عند ميلاد الطفل، وبالتالي - كما قدر الله تعالى - رَحَلَ الضيف بشير أحمد الأول أمام عيني والده سيدنا أحمد حيث توفي يوم 4/ 11/1887 محققًا نبوءةَ مولده وموته سريعاً أيضا.
وكانت وفاة الطفل بشير الأول فرصةً أخرى انتهزها خصوم سيدنا أحمد ليجادلوا في نبوءته المتعلقة بالابن الموعود على أنها باطلة. وردًّا على هذا المِراء أجاب حضرته:
"حتى يومنا هذا لم نصرح في أي إعلان أن هذا الطفل سيعيش حياة طويلة، ولم نقُل إنه كان الابنَ الموعود "المصلح الموعود"، بل الواقع أن في إعلاننا يوم 20/ 2/1886 نبوءة بأن بعض أبنائي سيموت في سن مبكرة. فهذه النقطة تحتاج تفكيرًا صحيحًا: هل تحققت بموت الطفل هذه النبوءةُ أم بطلت؟ بل إن معظم الإعلانات التي وُزِّعت بين الناس تشير إلى وفاة هذا الطفل. فمثلا: جاء في إعلان 20/ 2/1886 العبارة التالية: غلام وجيه طاهر ينزل كضيف. وكلمة "ضيف" توحي كأنها اسم لهذا الطفل، وتومئ إلى أنه سوف يرحل من الدنيا بسرعة في سن مبكرة .. لأن الضيف هو من يرحل بعد أيام قلائل وأنت تقف وترقب رحيله. أما الرجل الذي يبقى في البيت ويقول وداعًا للراحلين لا يمكن أن يسمى ضيفًا" (مجموعة الإعلانات ج1 ص183).
وزاد سيدنا أحمد الموضوع توضيحًا كي لا يقع أحد في الخطأ ويحسب أن هذا الجزء من النبوءة يتعلق بالابن الموعود .. فصرح حضرته أن الجزء المتعلق بالابن الموعود يبدأ من العبارة "ينزل الفضل بنزوله". وهكذا يكون "فضل" هو الاسم المعطَى للابن الموعود في هذا الإلهام. وأيضا اسمه الثاني "محمود"، واسمه الثالث "بشير الثاني". وفي وحي آخر سمِّي "فضل عمر". ولذلك كان من اللازم أن يؤجَّل مجيئه حتى يأتي بشير هذا الذي مات، فيولد ويرحل، لأن كل هذه الأمور وُضعتْ تحت قدميه بحكمة من الله. وبشير الأول الذي مات كان سلفًا لبشير الثاني. هذا هو السبب في ذكر الاثنين معًا في نبوءة واحدة (المرجع السابق).
وبعد وفاة بشير الأول بشهر واحد تلقى سيدنا أحمد نبوءة أخرى تقول:
"ستعطى بشيرًا آخر اسمه محمود. وسيكون صادق العزم في مشاريعه" (المرجع السابق ص 179).
وفي إعلان آخر، قبل مولد هذا الابن قال سيدنا أحمد أنه أُخبرَ عن ابن يولد له، ورأى اسمه مكتوبا على الجدار "محمود" (المرجع السابق، وترياق القلوب، الخزائن الروحانية ج15 ص146).
وأخيرًا تم في 12/ 1/1889 الظهور المبارك للمولود بشير هذا، الذي اسمه أيضا محمود. وصرح سيدنا أحمد عند مولده أنه رُزق بمولود صبي أسماه بشير محمود على سبيل التيمن (مجموعة الإعلانات ج1 ص191، إعلان 12/ 1/1889م).
ووُلد لسيدنا أحمد بعد ذلك مولود صبي آخر سماه "بشير أحمد" يوم 20/ 4/1893. ومن ثم في خلال 9 سنوات - كما جاء في النبوءة الأولى - رُزق سيدنا أحمد - ليس بولد واحد - بل بثلاثة أولاد: بشير الأول الذي تُوفي، وبشير الدين محمود، وبشير أحمد .. وقد عاش الأخيران.
فالجدال في نبوءة سيدنا أحمد بخصوص مولد الابن الموعود ليس له ما يبرره مطلقًا .. لأن اثنين من أولاده وُلدا في خلال المدة المقررة في النبوءة.
ويبقى بعد ذلك أن ننظر هل تحققت النبوءة في ابني سيدنا أحمد هذين: بشير الدين محمود وبشير أحمد .. المولودين خلال فترة السنوات التسع المحددة .. وأن أحدهما كان الابن الموعود؟
ومن العجيب أن الناقدين لنبوءات سيدنا أحمد يجادلون في تحقق هذه النبوءة المتعلقة بالابن الموعود، مستغلّين - بطريقة ماكرة - ولادةَ طفلٍ تُوفي في المهد، متجاهلين تمامًا ولادةَ بَطَلَيْ الإسلام هذين: سيدنا الميرزا بشير الدين محمود أحمد والميرزا بشير أحمد .. اللذين وُلدا في غضون فترة السنين التسع المقررة في النبوءة، وكلاهما عاش بعد وفاة والدهما سيدِنا الميرزا غلام أحمد القادياني. ألا يدل هذا الإغفال الخبيث المتعمد لمولد هذين النجلين الكريمين خلال الفترة المحدودة في النبوءة .. أن نُقّاد سيدنا أحمد ليسوا أمناء في تناولهم لهذه النبوءة؟
حقيقة الأمر أن مولد ابنِ سيدنا أحمد: سيدِنا الميرزا بشير الدين محمود أحمد كان استهلالا لعهد تحقُّقِ النبوءة الكبرى: نبوءةِ "الابن الموعود" التي أعلنها سيدنا أحمد في 20/ 2/1886م.
لقد وُلد سيدنا الميرزا بشير الدين محمود أحمد، الابن الموعود، بعد ولادة بشير الأول، الضيفِ الذي مات في طفولته، والذي كانت ولادته ووفاته بشارةً بمولد بشير الثاني كما جاء في إعلان 20/ 2/1886، وكما وضّحه سيدنا أحمد. ولقد وُلد في حدود مدة السنوات التسع. ومع أن أخاه الأصغر الميرزا بشير أحمد وُلد أيضا في نطاق نفس المدة المحددة إلا أن الحكمة الإلهية أكّدت أن الابن الموعود هو سيدنا الميرزا بشير الدين وحده، وسمِّي محمودًا كما جاء في النبوءة.
ثم إن نص النبوءة فيما يتعلق بالابن الموعود يدل بنفسه على المعيار الصحيح لتحقيقها، فضلا عن ولادته خلال المدة المحددة بتسع سنوات ابتداءً من 20/ 2/1886. تميَّزَ حضرتُه بصفات معينة ومنجزات بارزة كما جاء في إعلان 20/ 2/1886م. تشهد الدلائل التاريخية على أن سيدنا الميرزا بشير الدين محمود أحمد كان الابن الذي تجلَّتْ في شخصيته بالفعل كلُّ الصفات النادرة البارزة المذكورة في النبوءة. وأنجز حضرته الأعمال العظيمة المطلوبة منه شخصيًّا، وحقّق نبوءة الابن الموعود نصًّا وروحًا.
فبينما كان حضرته في العقد الثاني من عمره ظهرت عليه أماراتُ نضج روحاني وفكري تفوقُ الوصف. وتتضح هذه الحقيقة من مساهماته الأدبية والعلمية في مجلة "نقد الأديان" ( Review of Religions) وجريدة "بدر" ومجلة "تشحيذ الأذهان" وفي الجرائد والدوريات الأخرى.
وفي حقل المعرفة لم يكن لسيدنا بشير الدين محمود أحمد نظيرٌ في مثل عمره. قام بتفسير القرآن المجيد - المسمى بالتفسير الكبير - وتزيد صفحاته عن 6000، وتفسير مختصر - المسمى بالتفسير الصغير - في 853 صفحة. وألف عشرات الكتب منها: دعوة الأمير، تحفة الملوك، حقيقة النبوة، السير الروحاني، حل مشكلة الهند، دعوة الأحمدية، فضائل القرآن، ذات البارئ تعالى، ملائكة الله، الذكر الإلهي، والعرفان الإلهي. هذا فضلا عن محاضرات عديدة منها: الانقلاب الحقيقي، نظام الاقتصاد في الإسلام، النظام العالمي الجديد للإسلام، وبداية الخلافات في الإسلام، وقد صدرت منها عدة طبعات.
وقد كشف سيدنا الميرزا بشير الدين محمود أحمد عن فصاحة وبلاغة عظمى في خطبه، وتشرف بأن يكون أصغَرَ المتحدثين سنًّا في الاجتماعات السنوية للجماعة الإسلامية الأحمدية. وتشرف بتمثيل الإسلام في مؤتمر الأديان الرئيسية بالإمبراطورية الذي انعقد في المعهد البريطاني بلندن 1924. ونُشر خطابه هذا في كتاب اسمه "الأحمدية .. أي الإسلام الصحيح" بعد ما لقيه من نقد صحفي رائع.
كما تجلت من حضرته الحكمةُ والحصافة الفريدة؛ وأبدى أماراتِ الإقدام المدهشة، وأظهر مهاراتٍ إدارية رائعة منذ شبابه الباكر. وبفضل ما حباه الله من فطنة ثاقبة ومقدرة فذة كمخطط بارز ومنظم ماهر .. تمكّن حضرته من قيادة وتوجيه الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى نجاح عظيم أثار حسد خصومها. لقد فعل كل هذا وهو لا يزال في سن الرابعة والعشرين الغضة .. عندما انتُخب خليفةً للجماعة الإسلامية الأحمدية؛ واحتج خصومُه بأنه في سن مبكر جدًّا فكيف له أن يمسك بعنان الجماعة ويدير أمورها.
وأبدى سيدنا الميرزا بشير الدين محمود أحمد اهتمامًا شديدًا بمصالح المسلمين في شتى أنحاء العالم .. ونالت إسهاماته ضد حركة "شُدْهِيْ" الهندوسية الشهيرة الهادفة لردّ المسلمين إلى الهندوسية، تقديرَ المسلمين الهنود (المولوي ظفر علي خان، جريدة "زميندار"، لاهور 18/ 4 و17/ 5 و29/ 6/1923، والشيخ نياز علي، "زميندار"، لاهور 24/ 6/1923، وجريدة "مشرق" غورخبور 29/ 3/1923، وجريدة "وكيل"، أمرتسار، 3/ 5/1923).
وعندما استنّ حضرته عقدَ مؤتمرات "سيرة النبي" بمناسبة المولد النبوي الشريف في شبه القاره الهندية يعرض خلالها سيرة نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، ويدحض بها تأثيراتِ حركةِ "شُدْهي" المناهضةِ للإسلام .. أشاد به قادةُ المسلمين في الهند إشادة متألقة (جريدة "مشرق" غورخبور، 12/ 6/1928، وجريدة "سلطان" 12/ 6/1928، ومجلة "بيشوا"، دهلي،2/ 7/1928، ومجلة "بيغام عمل"، فيروزبور، 24/ 5/1929، ومجلة "همت"، لكناو 3/ 5/1929).
وفيما بين 1917 و 1946 نصح لقادة حزب المسلمين الهنود "الرابطة الإسلامية" بصدد مسألة حقوق المسلمين في شبه القارة الهندية. (جريدة "خاور" 21/ 7/1930 وجريدة "اِنقلاب" 16/ 7/1930 وجريدة "سياست" لاهور، 2/ 12/1930 وجريدة "همت" لكناؤ 5/ 12/1930)
ولقد بلغ نفوذه إبان هذه الفترة الحرجة مبلغًا جَعَلَ قيادةَ "حزب الأحرار" المُوالي للحزب الهندوسي "كونغرس" المعارضِ لحزب المسلمين تنوح قائلة:
"ألقى السيد محمد علي جناح خطبة في مدينة "كويتا" حيث اتبع فيها تماما سياساتِ الميرزا محمود".
ولقد أكسبته مساندته لقضية المسلمين في كشمير استحسانًا بمثل ما نال الثناءَ الحميد لتأييده قضيةَ فلسطين (جريدة "النهضة" الأردنية 12/ 1/1948).
وما أدل على ذلك من خطبته الشهيرة: "الكفر ملة واحدة" .. التي دعا فيها المسلمين من جميع الأقطار لمساندة الفلسطينيين ومساعدتهم بالمال عند قيام إسرائيل.
ولعله من المتعذر عمليًّا أن نسوق كلَّ منجزات سيدنا محمود في منشور واحد، ومع ذلك فإنه تقديرًا لإنجازاته العظيمة حيّاه وأشاد به رجال من ذوي المكانة الرفيعة من أمثال العلامة نياز الفتحبوري - العالم الشهير في القارة الهندية والمعروف بنفاذ البصيرة - الذي أثنى عليه قائلا:
"بين أيدينا الجزء الثالث من التفسير الكبير الذي ندرسه بعناية. لا ريب أنك خَلقت وجهًا فريدًا لدراسة القرآن الكريم. والتفسير هو الأول من نوعه. وقد مزجتَ فيه بين الذكاء والعلم بطريقة جميلة جدًّا. إن معارفك العظيمة وتفكيرك المتبحر، وفهمك الفريد، وطريقتك في التعبير .. كل ذلك جليٌّ في كل كلمة. أعتذر عن إهمالي لهذا التفسير كل هذه المدة. يا ليت! كان بوسعي دراسة مجلداته كلها. بالأمس فقط كنت أقرأ تفسير سورة هود، فتأثرت كثيرا برأيك فيما يتعلق بسيدنا لوط عليه الصلاة والسلام حتى وجدتُ نفسي مدفوعًا لكتابة هذه الرسالة. إن الموقف الذي اتخذتَه في تفسير الآية {هؤلاء بناتي هن أطهر لكم} موقف فريد، ولا أجد الكلمات التي أعبّر بها عن امتناني لك. فليحفظك الله تعالى" (16. مجلة "الفرقان" ربوه، ديسمبر 1965 ويناير 1966).
وقد قرظتْ جريدة "وكالة الأنباء" العربية الأردنية الترجمةَ الإنجليزية للتفسير الكبير تحت عنوان (ترجمة القرآن الكريم)، وقالت:
يقع الكتاب في 968 صفحة تضم ترجمة السور المجيدة: الفاتحة والبقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة. وقد أحسن الميرزا بشير الدين محمود أحمد فضم مصادرَ الكتاب وبحوثا قيمة من القرآن المجيد وسيرة الرسول الأعظم وشخصيته، وكيفيةَ جمع القرآن وغيرها. والترجمة الإنجليزية تفوق كلَّ ترجمة سبقها من حيث الإتقان وجودة الورق والطبع والانسجام وصدق الترجمة الحرفية، وتفسيرِها تفسيراً مسهباً بأسلوب جديد يدل على علم غزير واطلاع واسع على حقائق الدين الإسلامي الحنيف وتعاليمه السامية. والكتاب الثمين في مجموعه دفاع عن الإسلام وردٌّ على خصومه وخاصة على المستشرقين .. يبطل مزاعمهم بأسلوب علمي رائع.
ومما يجدر ذكره أن المسز زمرمان الكاتبة الهولندية المعروفة قامت بنقل هذه الترجمة للقرآن المجيد من الإنكليزية إلى الهولندية وما كادت تفرغ من ترجمتها حتى اعتنقت الإسلام (جريدة وكالة الأنباء العربية، عمان، الأردن، عدد 6 شباط 1949).
كان مثل هذا الثناء والتقريظ من أهل النزاهة والاستقامة أمرًا عاديًّا في حياة سيدنا الميرزا بشير الدين محمود أحمد. ثم ما هو المعيار للحكم على منجزات شخص أفضل مما يشهد به أعداؤه ويعلنونه؟ هذا شودري فضل حق - زعيم حركة الأحرار، وهي منظمة نذرت نفسها لمعارضة الجماعة الإسلامية الأحمدية - يتحدث عن براعة سيدنا محمود فيصرح:
"إن وراءه عقلاً فذًّا قادرًا على تدمير أعظم إمبراطورية في غمضة عين" (جريدة "المجاهد" 15/ 8/1935).
وهذا المولوي ظفر علي خان، وهو معارض شديد للجماعة الإسلامية الأحمدية .. يتحسر لما شهده من منجزات سيدنا محمود وينذر زملاءه وأصحابه:
"أَعِيروني سمعَكم وأَنصِتوا أنتم وشركاؤكم أيها الأحراريون! إنكم لن تستطيعوا أن تهزموا الميرزا محمود حتى يوم الدين. إن الميرزا محمود يملك القرآن وعلم القرآن. وإنكم لم تقرؤوا القرآن أبدا ولو في أحلامكم. مع الميرزا محمود جماعة مستعدة للتضحية بكل ما تملك عند قدميه. الميرزا محمود لديه دعاة: مبلغين وعلماءَ في تخصصات شتى. لقد ثَبَّتَ رايتَه في كل بلد من العالم" (أيك خوفناك سازش (مؤامرة مخيفة) للسيد مظهر علي أظهر ص196).
أي نوع من الرجال هذا الذي يلقي في قلوب خصومه مثل هذا الرعب والخوف؟
كل هذا .. وما خَفِيَ كان أعظَمَ. لقد حظي سيدنا الميرزا بشير الدين محمود أحمد بالاستحسان من أصدقائه وأعدائه على حد سواء .. لقدراته الخارقة وإنجازاته البارزة. ولسوف ننهي هذا الفصل باقتباس ما كتبه يعقوب خان - المحرر السابق للجريدة الرسمية المدنية والحربية ( CIVIL & MILITARY GAZETTE) - مؤبِّنًا سيدنا محمودًا بعد وفاته:
عظيم مِن بُناة الأمة
"بوفاة الميرزا بشير الدين محمود أحمد إمامِ الحركة الأحمدية - ربوة .. أُسدِلَ الستار على مسار حياةٍ هي الأحفل بالأحداث والأحشد بمشروعات بعيدة المدى لا تحصى. رجل ذو شخصية عبقرية متعددة المواهب، مفعمة بالنشاط والحيوية. لا يكاد يوجد مجال من مجالات الفكر والحياة المعاصرة من العلوم الدينية إلى تنظيم الدعوة والتبليغ، بل والقيادة السياسية .. إلا وترك فيها الفقيد أثرًا عميقًا في خلال النصف القرن الماضي.
هناك شبكة كاملة من البعثات الإسلامية والمساجد منتشرة في أنحاء العالم؛ واختراقٌ عميق للدعوة الإسلامية في أفريقيا، وإزاحةٌ للإرساليات النصرانية الراسخة منذ زمن طويل عن مواقعها. كل ذلك ينهض نصبًا تذكاريًّا وأثرًا خالدًا لما كان يتمتع به الفقيد من تخطيط مبدع؛ ومقدرة تنظيمية وطاقة لا تنضب. لا يكاد يوجد قائد قوم في زمننا الحاضر حَازَ كلَّ هذا الإخلاص العميق من جانب أتباعه .. ليس إبان حياته فقط، بل وبعد وفاته. فقد هرع 000،60 من كافة أنحاء البلاد ليقدموا واجب التكريم والتقدير الأخير نحو إمامهم الراحل. وفي تاريخ الحركة الأحمدية .. سوف يُسجَّل اسم الميرزا محمود على أنه عظيم من بُناة الأمة .. شيّد جماعةً متينة محبوكة النسج في مواجهة ظروف ثقيلة الوطأة، وجعل منها قوةً يُحسب حسابها" (جريدة "النور"، لاهور، 16/ 11/1965)

الفصل السابع

النبوءة المتعلقة بالقس ألكسندر دوئي

( Alexander Dowe)
كان ألكسندر دوئي إسكتلنديا هاجر إلى أستراليا عام 1872 كرجل من رجال الدين. وفي سنوات قلائل اكتسب شهرةً إلى حد ما بقدرته المزعومة على الشفاء. وفي عام 1888 ارتحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث شرع في إصدار جريدة تسمى ( Leaves of Healing) ( أوراق الشفاء)؛ وأخذ يدعو إلى النصرانية عام 1892؛ وبسبب شهرته أسس في أمريكا عام 1896 طائفة نصرانية كاثوليكية تُنسب إليه. وبعد عدة سنوات عام، 1901 ادّعى ألكسندر دوئي أنه المبشِّر بعودة المسيح الذي تشوَّقَ الأمريكان المتدينون إلى مجيئه. وأخذ يسيطر على عدد كبير من الأتباع في الولايات المتحدة الأمريكية. ولما تدفقت عليه الأموال اشترى قطعةَ أرضٍ في مقاطعة إلينوي ( Illinois) حيث بنى فيها بلدة سماها مدينة صهيون.
كان دوئي عدوًّا لدودًا للإسلام ونبيِه الكريم سيدنا محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وقد دلّل على عداوته في خطبه وكتاباته. قال في إحدى خطبه:
"أنظُرُ إلى زيف محمد باحتقار شديد. لو أني قبلتُ بهذه الأباطيل فكأني آمنت أنه لا توجد في هذا الجمْع .. بل ولا في أي مكان آخر من أرض الله .. امرأةٌ واحدة لها روح خالدة. وكأني اعترفتُ أنّكنّ - معشرَ النساء - لستن إلا حيوانات بريّة. تُستعملن ساعة في اليوم كألعوبة، وليس لكُنّ وجود خالد، وأنه عندما يُرضي أولئك الذين تسيطر عليهم الشهواتُ البهيمية شَبَقُهم منكن تَمُتْنَ ميتةَ الكلاب. هذه هي نهايتكن. هذه هي ديانة محمد." ( Leaves of healing, volume No7, Issue No 5, 26/ 5/1900)
كما نشر دوئي نبوءة عام 1902 صرّح فيها أنه إذا لم يتنصَّرْ كافةُ مسلمي العالم فلسوف يَلقَون الموتَ والدمار.
عندما بلغتْ سيدَنا أحمد أخبارُ تهجُّم ألكسندر دوئي على الإسلام ونبيِّ الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، وبلغتْه نبوءتُه ضد مسلمي العالم .. صرّح حضرته:
"ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية مؤخَّرا رجلٌ اسمُه دوئي يدّعي بأنه رسول ليسوع، وأن يسوع - بوصفه ربًّا - أرسله للعالم ليدعو الناس إلى عقيدة أنه لا ربّ سوى يسوع." (مجلة "نقد الأديان" المجلد الأول عدد9، ص342 - 348)
ثم قدم سيدنا أحمد نفسه إلى القس ألكسندر دوئي، وصرّح أن دوئي هذا الذي يؤلِّه يسوعَ، ويزعم نفسه رسولا له، ويقول بأن النبوءة الواردة في سفر التثنية 15:18 من العهد القديم قد تحققت بظهوره هو، وأنه هو إيليا ورسول العصر .. لا حاجةَ بدوئي للتلَهُّف على هلاك المسلمين. إننا نبين للسيد دوئي باحترام أن تحقيق غرضه لا يتطلب تعريضَ ملايين المسلمين إلى الهلاك؛ فهناك وسيلة سهلة للغاية لبيانِ هل رَبُّ دوئي حقٌّ أم باطل. ولا تتطلب هذه الطريقة أن يكرّر إعلان نبوءته عن هلاك المسلمين، بل فليَضَعْني وحدي في ذهنه، ويدعو بشأننا معًا ليهلك الكاذب منا قبل الآخر. إن دوئي يعتقد بأن يسوع ربٌّ، وأنا أعتبره مخلوقًا متواضعًا ونبيًّا فحسب. والمسألة في هذا الموضوع هي: مَن منا على الحق؟ ينبغي على المستر دوئي أن ينشر دعاءه وليُشْهِدْ ويُطْلِعْ عليه 1000 شخص على الأقل. وعندما تصلني النشرة التي تتضمن إعلانه .. سوف أدعو بدوري وأُرفِق مع الدعاء شهادةَ 1000 شخص، إن شاء الله.
لست أنا البادئ بهذا الدعاء، فإن مستر دوئي هو الذي وضع نفسه في هذا الموقف من خلال إعلاناته. ولما لاحَظَ اللهُ الغيورُ ذلك دَفَعَني إلى هذه المواجهة. إنني لست شخصًا عاديا في هذا البلد .. بل إني أنا المسيح الموعود الذي ينتظره المستر دوئي.
ولو كان المستر دوئي صادقًا في ادعائه، وأن يسوع رب حق .. لحُسمت المسألةُ بموت شخص واحد. ومن ثَمّ فلا حاجة لإهلاك المسلمين في أقطار الأرض جميعا. أما إذا لم يستجب المستر دوئي لهذا الإعلان ولم ينشر دعاءً بحسب تبجحاته وادعاءاته .. ورُحِّل من الدنيا قبل وفاتي .. فإن هذا يكون آية لأهل أمريكا جميعًا. والشرط الوحيد هو ألا يكون موتُ أحدنا بيدٍ بشرية .. بل يكون بفعل مرض أو صاعقة أو لدغة ثعبان أو افتراس وحش. وإني أعطي دوئي فترةَ ثلاثة أشهر ليتخذ قراره ويستجيب لمطلبي. وإني لأبتهل إلى الله أن يكون مع الصادقين! والأسلوب الذي أعرضه هو أن يأتي المستر دوئي ليواجهني في الميدان بإذن من ربه الزائف. إني رجل مُسنّ تجاوزتُ 66 سنة من عمري، وإني مريض بالسكر والدوسنطاريا والصداع النصفي والأنيميا، وأُدرك أيضا أن حياتي لا تتوقف على حالتي الصحية .. وإنما على أمر ربي. فإذا كان ربُّ دوئي الزائف يملك أية قوة .. فلا بد أن يسمح له بالخروج إلى مواجهتي. وبدلاً من إهلاك المسلمين جميعًا .. إذا رأى المستر دوئي أن موتي وحدي يحقق غرضه .. فلسوف يُري آيةً عظيمة، وبشهودها سوف يعترف ملايينُ الناس بأن ابن مريم ربٌّ ويؤمنون بأن دوئي رسوله." (المرجع السابق)
أذاعت الصحافة الأمريكية إعلانَ سيدنا أحمد هذا ونشرتْه على نطاق واسع، كما نشرتْ بعضُ الدوريات هذا التحدي حرفيًّا بتمامه تقريباً.
( Literary Digest, 20th June 1903. Burlington Freepost 27th June 1903, New York Commercial Advertiser, 26th October 1903)
وسردت إحدى الدوريات هذا التحدي تحت عنوان "مبارزة في الدعاء .. إنجليزي ضد عربي"، وختمت بيانها بهذه الملاحظة:
"وباختصار فإن الميرزا كتب لدوئي: أنت زعيمُ جماعة، وأيضا لي أتباع عديدون. ويمكن التوصل بسهولة إلى تقريرِ مَن هو مِن عند الله. يجب أن ندعو كي يُهلك الله الكاذبَ في حياة الآخر. فالذي يُستجاب لدعائه يُعتبر من عند الله حقًّا. إنها حقًا أكثَرُ الاختبارات معقوليةً وإنصافًا! " ( Argonaut, San Francisco, 1/ 12/1902)
ولم يُجب ألكسندر دوئي على تحدي سيدنا أحمد كما طلب منه. ومع ذلك أعلن في فبراير 1903 ما يلي:
"أدعو الربَّ أن ينقرض الإسلام حالا من العالم. يا رب تقبَّلْ دعائي. يا رب دَمِّرْ الإسلام." ( Leaves of Healing 14/ 2/1903)
وفي 23/ 8/1903 نَشَرَ سيدُنا أحمد تصريحًا آخر موجَّهًا إلى دوئي قال فيه: إن من آيات صدقي أنه إذا قَبِلَ دوئي بالتحدي صراحةً أو ضِمنيًا فلسوف يودِّع الحياةَ في أسًى وعذاب عظيم في حياتي.
ولما لم يجب دوئي على تحدي سيدنا أحمد مَنَحَه حضرتُه مهلة سبعة أشهر أخرى، وصرح أنه "إذا تقدم دوئي خلال هذه المهلة لمبارزتي، وقام بالإعلان المطلوب .. فلسوف تشهد الدنيا نهايةَ هذا المباراة".
وذكّره سيدُنا أحمد "أنه في حوالي السبعين من عمره، في حين أن دوئي لم يكد يبلغ الخمسين" بحسب ما جاء في تصريحاته.
وقال سيدنا أحمد إنه "إذا فَرَّ دوئي من المعركة فلسوف يشهد عليه أهلُ أمريكا وأوروبا قاطبة، ويكون فرارُه هزيمة ونوعًا من الموت له". واختتم سيدنا أحمد تصريحه قائلا:
"ولكن تأكَّدوا أن كارثةً سوف تحيق بصهيون عاجلا".
وأخيرا اضطر دوئي للاستجابة إلى تحدي سيدنا أحمد، وأعلن في ديسمبر 1903:
"هناك مسيح محمدي في الهند، كتب عدة مرات أن يسوع المسيح مدفون في كشمير؛ ويسألني بعضُ الناس: لماذا لا ترد عليه بالجواب اللازم؟ هل تتصورون أن أرد على البراغيث والذباب؟ لو وضعتُ قدمي عليها لسحقتُها فأهلكتُها جميعا. الواقع أني أعطيها الفرصةَ لتطير بعيدًا وتظلّ حيّة. ً" (المرجع السابق)
وبهذا التصريح يكون ألكسندر دوئي قد قبِل التحدي .. إن لم يكن صراحة فعلى الأقل ضمنيًا. وما كاد دوئي يُصدر هذا التصريح حتى أخذت أموره في التدهور، وبدأت تظهر على صحته أماراتُ الانحطاط؛ وطفق أتباعُه يتشككون في دعاويه، وحلّت به صعوباتٌ مالية. وتَهَاوَتِ القدمُ التي خطا بها دوئي على أرض صهيون في كبرياء .. ولم تكن أبدًا قادرةً على سحق المسيح المحمدي، بل ولم تَعُدْ تستطيع حملَ جسد صاحبِها واقفًا على الأرض. لقد عانى نوباتٍ شديدةً من الشلل في أكتوبر وديسمبر 1905، وأخذوه إلى مكسيكو وجامايكا .. بحثًا عن علاج له لم يجدوه أبدًا.
واكتشف أتباعُ دوئي أنه كان سِكِّيرًا مُدمِنًا بينما كان يمنعهم من الخمر، واختلس أيضا الأرصدةَ المالية للمؤسسة .. ومن ثَم عَزَلُوه عن منصبه. وهجرتْه زوجتُه وأولاده كذلك، وقضى ما بقي له من أيام في بؤس مادي وعذاب نفسي. وفي 7/ 3/1907 .. هلك ألكسندر دوئي مهجورًا محسورًا مفضوحًا مَهينًا. وعند هلاكه كتبت إحدى الصحف الأمريكية التي كانت تُتابع تطوراتِ النزاع بينه وسيدنا أحمد:
"لقد مات دوئي مِيتةً بائسةً تعيسةً، وتمزقتْ مدينةُ صهيون كلَّ ممزق في منازعات داخلية". Boston Herald, 23/ 6/1907))
وفي الوقت الذي يحتجُّ فيه خصومُ سيدنا أحمد العيّابون الكذابون بأنه لم يتنبأ قط بهلاك ألكسندر دوئي .. تُصرِّح الصحفُ الأمريكية التي شهدت الخلافَ بين سيدنا أحمد ودوئي قائلةً:
"تنبأ رجلُ قاديان أنه إذا لم يقبل دوئي التحدي فلسوف يغادر الدنيا أمام عينه في أسًى شديد وعذاب. ويقول الميرزا: إذا رفض دوئي تأجلت نهايته فقط، والموت ينتظره على حد سواء، ولسوف تنزل الكارثة بمدينة صهيون. كانت هذه نبوءةً عظيمةً: تسقط صهيون ويهلك دوئي قبل أحمد. لقد كانت خطوة تنطوي على مخاطرة من جانب المسيح الموعود إذ يتحدى إيليا العائدَ إلى الحياة في اختبار التحمل .. لأن المتحدي كان أكبر بخمسة عشرَ عامًا، وكان يعيش بأرض يهدد فيها الطاعون والمجاعات هذا الباقيَ على الحياة. ومع ذلك فإنه قد فاز." ( Truth Seeker, 15/ 6//1907)
وكتبت صحيفة أمريكية أخرى تقريرا عن الموتة البائسة التي لقيها ألكسندر دوئي تماماً كما ذُكر في نبوءة سيدنا أحمد .. جاء فيه:
"يُلتمس العذر لأحمد وأتباعه إذا تباهَوا بعضَ الشيء بسبب الدِّقة التي تحققت بها النبوءة منذ عدة شهور." ( Dunville Gazette, 7/ 6/1907)
رسالة أحدث
السابق
هذا آخر موضوع.

0 التعليقات :

إرسال تعليق

عربي باي